عربي ودولي

العالم يحتاج نظاما جديدا للمساعدات التنموية لا يعتمد على الولايات المتحدة
العالم يحتاج نظاما جديدا للمساعدات التنموية لا يعتمد على الولايات المتحدة
يواجه العالم وبخاصة الدول النامية والمنظمات غير الحكومية مشكلة كبيرة على خلفية اتجاه الدول الغربية الغنية نحو إلغاء أو خفض مخصصات المساعدات الخارجية.

وكانت البداية بالرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي قرر تجميد الوكالة الأميركية للتنمية الدولية المعنية بتقديم مليارات الدولارات من المساعدات لعشرات وربما مئات الدول والمنظمات حول العالم.

وبعد ذلك أعلنت حكومة رئيس وزراء بريطانيا كير ستارمر خفض مخصصات المساعدات الخارجية، مع توقعات باتخاذ دول غربية أخرى خطوات مماثلة بسبب حاجتها إلى زيادة مخصصات الإنفاق العسكري لمواجهة تداعيات سياسات الرئيس ترامب.

وفي الأسبوع الماضي قال ستارمر إن حكومته ستزيد الإنفاق العسكري من خلال خفض مخصصات المساعدات من حوالي 0.5 في المئة من إجمالي الدخل القومي إلى 0.3 في المئة فقط، وهو ما دفع وزيرة التنمية في حكومته أنيليس دودر إلى الاستقالة احتجاجا على هذا الخفض.

وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) البريطاني قالت أوليفيا أوسوليفان مديرة قسم بريطانيا في البرنامج العالمي بالمعهد إن بريطانيا تخفض مخصصات المساعدات منذ 2020، لتصل إلى أقل مستوياتها منذ عقود، حيث تضررت مخصصات المستفيدين الدائمين من هذه المساعدات وكذلك منظمات الإغاثة الإنسانية. ولم تكن بريطانيا الوحيدة في أوروبا التي خفضت مساعداتها حيث فعلت ذلك في السنوات الأخيرة فرنسا وألمانيا.

حان الوقت للدول المتلقية للمساعدات لكي تقلل اعتمادها عليها وتسيطر بصورة أكبر على نظمها بصورة أوسع

ولكن التخفيضات الأوروبية، رغم خطورتها، تتضاءل مقارنة بتأثير قرار إدارة ترامب بإغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وتجميد كل الإنفاق الاتحادي على المساعدات تقريبا.

وتثير هذه الخطوة تساؤلات حول النظام الحديث للمساعدات والتنمية، الذي لعبت فيه الولايات المتحدة دورا مركزيا، بما في ذلك تمويل وكالات الأمم المتحدة الرئيسية ودعم برامج الرعاية الصحية الأساسية الضخمة في الكثير من المناطق الفقيرة حول العالم.

وفي العشرين من يناير الماضي يوم تنصيبه، أصدر ترامب أمرا تنفيذيا بتجميد كل المساعدات الخارجية التنموية الأميركية لمدة 90 يوما. وبنهاية يوم أول فبراير، أغلق موقع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التي تدير مساعدات بنحو 60 مليار دولار سنويا.

وتشهد المحاكم الأميركية العديد من الدعاوى القضائية وبعضها أقامها أعضاء في الكونغرس لإلغاء قرار ترامب، وقال البعض إنه قد تتم إعادة تشكيل الوكالة بصورة جزئية تحت إدارة وزارة الخارجية. لكن الإدارة الأميركية أعلنت في الأسبوع الماضي انتهاء المراجعة الأولية لعمل الوكالة وإلغاء الآلاف من عقود المساعدات.

وترى أوسوليفان أن آثار غلق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية واسعة النطاق، لكنها قد تكون غير مرئية داخل الولايات المتحدة لآن المتضررين منها لا يمثلون قوة انتخابية.

وفي عام 2023 شكلت المساعدات الأميركية 29 في المئة من إجمالي المساعدات التي تقدمها دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، في حين شكلت بريطانيا 8 في المئة فقط من هذه المساعدات.

وتعتبر الولايات المتحدة ممولا رئيسيا لوكالات دولية أساسية، حيث تقدم ملياري دولار من إجمالي التبرعات التي حصلت عليها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة في العام الماضي وكانت 4.8 مليار دولار على سبيل المثال.

تراجع الغرب عن المساعدات سوف يترك فرصة واضحة للقوى المناوئة له وبخاصة الصين لتعزيز نفوذها في البلدان النامية

ويقول مركز التنمية العالمية إن الولايات المتحدة شكلت حوالي 20 في المئة من إجمالي المساعدات التي حصلت عليها 8 دول فقيرة، وأغلبها كان مخصصا لتوفير الرعاية الصحية الأساسية والإغاثة الطارئة. كما تعتمد دول تعتبر شريكا حيويا للأمن الغربي مثل الأردن على المساعدات الأميركية لدعم الخدمات الأساسية واللاجئين.

واضطرت بريطانيا والدول الغربية الأخرى إلى خفض مخصصات المساعدات الخارجية بسبب تزايد الضغوط لزيادة الإنفاق العسكري من أجل المحافظة على التحالف مع الولايات المتحدة.

وتعاني بريطانيا من ضغوط الإنفاق العسكري منذ مدة طويلة. وتعاني خطة تحديث المعدات الدفاعية من عجز يبلغ 15 مليار جنيه إسترليني. كما حذر البرلمان البريطاني من أن الجيش قد لا يستطيع القتال لفترة طويلة. كما أن حجم الجيش البريطاني لا يكفي لتلبية التزامات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ناهيك عن أي انتشار طويل المدى في أوروبا.

وسعى حزب العمال، الذي تولى الحكم في بريطانيا قبل أقل من عام، إلى استعادة بريطانيا لريادتها في مجال التنمية. وكان إعلان حكومة العمال عن كيفية تمويل الزيادة في الإنفاق العسكري خطوة إيجابية أفضل من مجرد إطلاق إعلانات دون تحديد سبل تمويلها.

ورغم ذلك فإن توفير 6 مليارات جنيه إسترليني من أموال المساعدات لن يكفي لسد العجز في الإنفاق العسكري. كما أنها لن تكفي بالتأكيد لتمويل التغييرات المطلوبة نتيجة تقليص الولايات المتحدة لوجودها العسكري في أوروبا بحسب خطط ترامب.

ويحسب لحكومة العمال قرارها تنفيذ خطة خفض مخصصات المساعدات الخارجية على مدار عامين وهو ما يعطي الفرصة للعمل مع الشركاء لمعالجة أوجه النقص في المساعدات.

وتسعى بريطانيا إلى إعادة ضبط علاقاتها مع عالم الجنوب. وإذا أرادت لندن أن يكون لها دور مهم في مكافحة الفقر والمشاكل المشتركة في الجنوب، فعليها استغلال اللحظة الراهنة للحديث مع دول الجنوب والاقتصادات الناشئة من أجل بلورة نظام دولي جديد للمساعدات والتنمية، بعيدا عن النموذج السابق الذي اعتمد بدرجة كبيرة على التمويل الأميركي.

والحقيقة هي أن عيوب النموذج الغربي للمساعدات الخارجية موثقة جيدا. ويرى المنتقدون أن المساعدات يمكن أن تخلق حالة من الاعتماد عليها، كما أن الناخبين في الدول الغربية وبخاصة في المناطق التي تعاني صعوبات اقتصادية لا يوافقون على تقديم هذه المساعدات للدول الأخرى.

وفي المقابل لا تريد إدارة ترامب تحسين هذا النموذج وإعادة رسم خطوط المحاسبة فيه لتحقيق نتائج أفضل، وإنما ترغب في تخلي الولايات المتحدة عن دورها المركزي في تمويل المساعدات الإنسانية والتنموية العالمية.

وسوف يترك تراجع الغرب عن المساعدات فرصة واضحة للقوى المناوئة له وبخاصة الصين لتعزيز نفوذها في البلدان النامية.

وبالفعل تواصل الصين الحديث عن تعهداتها بالاستثمار في أفريقيا. وفي منتدى التعاون الصيني – الأفريقي لعام 2024، تعهدت بتقديم 51 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات في شكل قروض ومساعدات تقليدية. كما تعمل دول الخليج على زيادة جهود المساعدات الإنسانية، إلى حد كبير في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية، مثل القرن الأفريقي.

وفي الوقت نفسه فإن الاتهامات الكاذبة التي يرددها فريق ترامب عن تأسيس الوكالة الأميركية للتنمية الدولية على الاحتيال، أو أنها جزء من مؤامرة أوسع نطاقا، تعزز نظرية المؤامرة التي ترددها أنظمة الحكم المستبدة في العالم عن برامج المساعدات الأميركية والغربية ككل، كما تهدد هذه الاتهامات المشروعات الغربية والمنظمات المتعاونة معها في تلك الدول.

وفي ضوء هذه التخفيضات، يرى بعض الخبراء أن الوقت قد حان للدول المتلقية للمساعدات لكي تقلل اعتمادها عليها وتسيطر بصورة أكبر على نظمها الصحية والتعليمية وسياساتها بصورة أوسع.

وأخيرا يمكن القول إن بريطانيا التي تراجع حاليا سياسة المساعدات، تستطيع التركيز على الخيارات المتاحة لها على المدى البعيد مثل مواصلة السعي لتحقيق نفوذ إستراتيجي لها في النظام الدولي الأوسع نطاقا للمساعدات بما في ذلك إصلاح المؤسسات المالية الدولية والعمل مع البلدان النامية لتطوير إستراتيجيات النمو الخاصة بها، بما يضمن تراجع حاجة تلك الدول إلى المساعدات الخارجية وتحسين مستوى معيشة مواطنيها اعتمادا على مواردها.

06 مارس 2025

هاشتاغ

التعليقات