جاءت الاستثمارات الغربية في قطاع النفط العراقي في طليعة عودة الغرب إلى مواقع إستراتيجية رئيسية في الشرق الأوسط لمواجهة نفوذ الصين وروسيا وإيران. ولطالما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يتطلعون إلى إعادة تأسيس وجودهم في المؤسسات السياسية والاقتصادية الرئيسية في العراق. وبعد أن بلغ ذروته عندما أطاحوا بالريس العراقي السابق صدام حسين من منصبه في أبريل 2003، تراجع نفوذهم كلما طال بقاء جيشهم على الأرض.
وخلال تلك الفترة، تمكنت إيران من إعادة تأسيس نفوذها الراسخ على جارتها من خلال شبكة عنكبوتية من الوكلاء السياسيين والاقتصاديين والعسكريين. وبعد أن سحب الرئيس دونالد ترامب الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق النووي مع إيران في مايو 2018، شعرت الصين بأنها قادرة على استبدال روسيا باعتبارها الراعي المهيمن للقوى الكبرى لكل من إيران والعراق.
وقد تم إضفاء الطابع الرسمي على هذه الدفعة الجديدة من جانب بكين إلى قلب الشرق الأوسط على حساب الولايات المتحدة مع إيران في “اتفاقية التعاون الشامل بين إيران والصين لمدة 25 عاما. ثم تم إضفاء الطابع الرسمي عليها مع العراق في اتفاقية “النفط مقابل إعادة الإعمار والاستثمار” في سبتمبر 2019، والتي تم توسيعها لاحقا في عام 2021 إلى “اتفاقية الإطار العراقية – الصينية” الاقتصادية والسياسية والعسكرية الشاملة.
وفي كل من حالتي إيران والعراق، شهدت هذه الاتفاقيات استفادة الصين من الاستثمار المالي في النفط والغاز الرخيصين من كلا البلدين، جنبا إلى جنب مع الوجود الأمني المكثف على الأرض، بما في ذلك الاستخدام المزدوج لمطارات وموانئ إيران والعراق من قبل بكين.
وكان استخدام الصين للاستثمار المالي الضخم في الأعمال التجارية التي تتطلب أيضا وجودا أمنيا كبيرا لحماية هذه المصالح في صميم مبادرة الحزام والطريق منذ إنشائها في عام 2013. ومن القانوني تماما بموجب القانون الدولي أن تضع الشركات الأجنبية عددا كبيرا من أفراد الأمن كما يحلو لها على الأرض إلى جانب المشاريع الدولية التي لديها استثمارات تريد حمايتها.
واستخدمت الولايات المتحدة نفس الأسلوب لزيادة نفوذها في جميع أنحاء العالم لعقود من الزمان، وقد استوحى كل من واشنطن وبكين إلهامهما لمثل هذه الإستراتيجية البسيطة ولكن الفعالة طويلة الأجل من شركة الهند الشرقية – البريطانية التي تأسست في عام 1600 والتي عملت بنجاح كبير لمدة 300 عام تقريبا. وقد استخدمت هذه الشركة التجارة والاستثمار كوسيلة للسيطرة على مساحات شاسعة من آسيا، بما في ذلك الهند وهونغ كونغ، مع حماية جميع هذه المشاريع من قبل قوة أمنية بريطانية في مرحلة ما تصل إلى 260 ألف رجل.
ويرى المحلل الاقتصادي سيمون واتكينز في تقرير على موقع أويل برايس أنه في سعيه إلى توسيع نفوذه في العراق، يتمتع الغرب بميزتين رئيسيتين لم يكن يتمتع بهما حتى وقت قريب. ويعتبر التطور الأول والأكثر ملاءمة هو أن الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط – إسرائيل – نجح في تقليص التهديد الإيراني بشكل كبير، سواء للغرب أو تجاه جيرانه الإقليميين، بما في ذلك العراق، من خلال الهجمات المدمرة على وكلاء حزب الله وحماس والحوثيين.
والتطور الثاني، الذي حدث في وقت سابق، كان الصفقة المكونة من أربعة أجزاء بقيمة 27 مليار دولار والتي أبرمتها شركة توتال إنرجيز الفرنسية العملاقة للنفط والغاز في طليعة عودة الغرب إلى مواقع إستراتيجية رئيسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
واثنان من هذه المشاريع الأربعة مهمان بشكل خاص في هذا الصدد، حيث يتمثل الهدف الأول في الحد من حرق الغاز المنطلق أثناء حفر النفط (الغاز المصاحب). ومن خلال القيام بذلك، يأمل الغرب في تقليل ثم القضاء على الحاجة طويلة الأمد للعراق إلى استيراد ما يصل إلى 40 في المئة من احتياجاته من الطاقة من إيران في إمدادات الغاز والكهرباء.
وفي عام 2017، التزمت بغداد بمبادرة الأمم المتحدة والبنك الدولي “صفر حرق روتيني”، والتي تهدف إلى إنهاء حرق الغاز بحلول عام 2030. وفي ذلك الوقت، أحرق العراق ثاني أكبر كمية من الغاز في العالم (بعد روسيا) – حوالي 17.37 مليار متر مكعب.
وفي العام الماضي، كان لا يزال في المرتبة الثانية خلف روسيا وكان يحرق نفس الكمية تقريبا من الغاز، لذلك سيكون لدى توتال إنرجيز عمل مضن في هذا الصدد، لكنه ليس خارج قدراتها. وينطبق نفس الشيء على المشروع الثاني الحيوي إستراتيجيا، والذي يتلخص في إحراز تقدم أخيرا في مشروع إمداد مياه البحر المشترك الذي طال انتظاره في العراق.
وهذا المشروع بالغ الأهمية لتمكين العراق من زيادة إنتاجه من النفط الخام بشكل كبير إلى 6 ملايين برميل يوميا، أو 9 ملايين برميل يوميا، أو حتى 13 مليون برميل يوميا. وسوف يؤدي تحقيق أي من هذه الزيادات إلى تعزيز مالية العراق بشكل كبير، وهو ما يأمل الغرب أن يقلل من اعتماده على إيران المجاورة.
◙ استثمارات توتال إنرجيز وبي.بي تهدف إلى تحسين الاكتفاء الذاتي من الطاقة والاستقرار المالي في العراق
وقد تأخر مشروع إمداد مياه البحر المشترك لأكثر من عقد من الزمان، حيث تنافست شركة إكسون موبيل الأميركية وشركة البترول الوطنية الصينية على السيطرة حتى انسحبت الشركة الأميركية أخيرا ولم تحقق شركة البترول الوطنية الصينية أي تقدم جوهري، مما سمح لشركة توتال إنرجيز بالحصول على العقد.
ويتضمن المشروع أخذ ومعالجة مياه البحر من الخليج العربي ثم نقلها عبر خطوط الأنابيب إلى منشآت إنتاج النفط للحفاظ على الضغط في خزانات النفط لتحسين عمر الحقول وإنتاجها. وتتمثل الخطة الأولية للمشروع في توفير نحو 6 ملايين برميل يوميا من المياه لخمسة حقول على الأقل في جنوب البصرة وحقل واحد في محافظة ميسان ثم توسيع نطاقه لاستخدامه في حقول أخرى.
والآن تدخل شركة النفط والغاز البريطانية العملاقة بي.بي إلى المشهد، بعد أن وافقت في التاسع عشر من ديسمبر على الشروط النهائية لتطوير حقول النفط الضخمة في كركوك بالعراق، والتي يقدر احتياطها بنحو تسعة مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج. وبالنسبة لشركة بي.بي، فإن الموقع سوف يكمل حصتها البالغة 50 في المئة في حقل الرميلة العملاق بالعراق، والذي يرتبط بدوره بخطط توتال إنرجيز لمشروع خزانات النفط والغاز.
وتتطلب حقول كركوك والرميلة حقن كميات كبيرة من المياه بشكل مستمر. ووفقا لأرقام الصناعة، انخفض ضغط الخزان في الأولى بشكل كبير بعد إنتاج نحو 5 في المئة فقط من النفط الموجود في مكانه. وفي الوقت نفسه، أنتجت الرميلة أكثر من 25 في المئة من احتياطها من النفط الموجود قبل الحاجة إلى حقن المياه (حيث يتصل تكوينها الرئيسي بمصدر كبير للمياه الجوفية). ورغم أن متطلبات المياه لمعظم حقول النفط العراقية تقع بين هاتين الحالتين، فإن احتياجات حقن حقول النفط هي الأعلى في جنوب العراق، حيث الموارد المائية هي الأقل توفرا أيضا.
وللوصول إلى المستويات الأعلى من زيادة إنتاج النفط في العراق، ومن ثم الحفاظ عليها، فإن احتياجات البلاد من حقن المياه تعادل نحو 2 في المئة من متوسط تدفقات نهري دجلة والفرات مجتمعين، أو 6 في المئة من تدفقهما مجتمعين خلال الموسم المنخفض، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.
وقد لا تبدو هذه الكميات مرهقة للغاية، ولكن لا بد من سحبها من الإمدادات المشتركة التي تحتاج أيضا إلى الاستمرار في تلبية احتياجات كبار المستخدمين الآخرين، بما في ذلك الزراعة. ولكن مرة أخرى، فإن هذا ليس خارج نطاق قدرات شركة توتال إنرجيز أو بي.بي.