بلغت أوروبا نهاية اتفاقية مرور الغاز الروسي عبر أوكرانيا بعد ثلاث سنوات من الغزو الروسي الشامل لكييف وقطع الإمدادات المتكرر، ما يمثل تحولا تاريخيا في مشهد الطاقة في أوروبا، مع التداعيات بعيدة المدى على أسواق الطاقة وجيوسياسية المنطقة وما حولها.
وتكافح أوروبا ارتفاع تكاليف الطاقة والتحديات الاقتصادية الهيكلية. ويعني ذلك أن الاعتبارات البراغماتية قد تدفع إلى استئناف جزئي لواردات الغاز الروسي خلال السنوات المقبلة (بما في ذلك، وخاصة عبر أوكرانيا، ربما ضمن اتفاق سلام).
ويقول ماتيو إيلاردو الباحث لدى مركز ران لدراسات المخاطر في تقرير نشره موقع ستراتفور إنه يمكن أن يتحدد ذلك بموجب شروط جديدة تقلل من نقاط الضعف الإستراتيجية وتعكس الدروس المستفادة من العقد الماضي بفضل جهود تنويع إمدادات الطاقة التي ستضع حدا لقدرة موسكو على تسليح صادراتها من الغاز إلى أوروبا.
الآثار على المدى القصير
تسبب وقف تدفقات الغاز الروسي عبر أوكرانيا في 1 يناير في تقلبات محدودة في الأسعار على المدى القصير في أوروبا، حيث حظي عملاء غازبروم الأوروبيون بمدة كافية للاستعداد لهذا السيناريو عبر تنويع المصدرين وبناء الاحتياطيات.
ومن غير المرجح أن تواجه أوروبا نقصا هذا الشتاء. لكن التوقف سيزيد من ضغوط الأسعار خلال الأشهر المقبلة بينما استحوذ الطريق الأوكراني على حوالي 5 في المئة من إجمالي مدخول الغاز في أوروبا خلال 2024. ولا يمكن لهذا القدر إحداث أزمة، ولكنه مهم بما يكفي لتسريع استنفاد المدخرات خلال الشتاء، حين يبلغ الطلب على التدفئة ذروته.
ويعني هذا أن المشترين الأوروبيين، وخاصة أولئك في وسط أوروبا وشرقها، قد يضطرون إلى الدفع للتفوق على المنافسين الآسيويين وتأمين إمدادات كافية قبل الشتاء المقبل في سوق الغاز الطبيعي المسال العالمي الذي يزيد ضيقا.
واردات روسيا المتجددة من الغاز ستشغل حصة أصغر بكثير ضمن مزيج الطاقة الأوروبي المستقبلي
ويبقى من غير المتوقع أن تدخل أيّ توسعات جارية في الشرق الأوسط والولايات المتحدة إضافات محسوسة إلى السوق حتى 2026. وبعبارة أخرى، ستتجاوز أسعار الطاقة الأوروبية لسنة 2025 متوسطات العام الماضي. ويطيل هذا من ارتفاع فواتير الطاقة التي تتكبدها الأسر والشركات.
وستواجه دول أوروبا الوسطى غير الساحلية التي تعتمد بشكل كبير على إمدادات خطوط الأنابيب الروسية، مثل سلوفاكيا والنمسا وجمهورية التشيك، تكاليف أعلى لتأمين بدائل مثل الطاقة الإضافية المنقولة بالأنابيب من النرويج وواردات الغاز الطبيعي المسال عبر المحطات ووحدات إعادة التغويز العائمة في البلدان المجاورة مثل كرواتيا واليونان وألمانيا وإيطاليا وليتوانيا وبولندا.
وستكون الآثار المالية حادة أكثر في سلوفاكيا التي أصبحت نقطة دخول رئيسية للغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي. وكانت تتقاضى رسوم عبور من إرسال الغاز إلى النمسا والمجر وإيطاليا. ومن المتوقع أن تكلف خسارة إيرادات النقل والوصول إلى الغاز المخفض سلوفاكيا حوالي 500 مليون يورو سنويا. وستواصل دول أخرى مثل المجر وصربيا تلقي التدفقات الروسية عبر خطوط الأنابيب المتبقية عبر تركيا والبحر الأسود.
وستخسر أوكرانيا نفسها رسوم عبور كبيرة مع تخليها عن دورها الإستراتيجي طويل الأمد كقناة طاقة رئيسية للحلفاء في أوروبا.
وشددت على معارضتها لتجديد الاتفاقية لحرمان روسيا من مصدر تمويل رئيسي لجهودها الحربية. لكن كييف كانت تعتمد على ما يقرب من 0.8 إلى 1 مليار دولار من رسوم العبور السنوية (حوالي 0.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد) للحفاظ على شبكة خطوط الأنابيب الواسعة التي يكلف الحفاظ عليها نحو 400 – 800 مليون دولار سنويا والتي تستخدم لنقل الغاز المنتج محليا أيضا.
أوكرانيا ستخسر رسوم عبور كبيرة مع تخليها عن دورها الإستراتيجي طويل الأمد كقناة طاقة رئيسية للحلفاء في أوروبا
ويخاطر العجز المالي بترك بنية خطوط الأنابيب التحتية في أوكرانيا في حالة سيئة، خاصة مع احتمال أن تزيد موسكو من هجماتها عليها لأن الغاز الروسي لم يعد يتدفق عبرها. كما كان من الممكن استغلال أيّ فائض من دخل العبور واستخدامه للتخفيف من العجز الكبير في موازنة أوكرانيا السنوية المقدر بعشرات المليارات من الدولارات. ويضاعف هذا التحديات الاقتصادية التي تواجهها البلاد مع استمرار الحرب.
وستخسر روسيا أيضا جزءا آخر من النفوذ الجيوسياسي ضد أوروبا، إضافة إلى حوالي 6.5 مليار دولار سنويا من الإيرادات من مبيعات الغاز من أحد خطوط الأنابيب الثلاثة المتبقية إلى القارة.
وليس للغاز المنقول عبر هذا الطريق مسارات بديلة، حيث تبقى قدرة روسيا محدودة على إعادة توجيه هذه الكميات إلى خطوط أنابيب أخرى أو محطات تصدير الغاز الطبيعي المسال.
وفي نفس الوقت، ستواجه الجهود المبذولة لإعادة توجيه الصادرات نحو الأسواق الآسيوية عقبات كبيرة، فهي بطيئة التنفيذ ومكلفة بينما لا تزال روسيا في حالة حرب مع أوكرانيا.
وستمنح روسيا الأولوية لتعزيز قدرتها على تصدير الغاز الطبيعي المسال للتعويض عن أحجام خطوط الأنابيب المفقودة. لكن مساعيها ستكون مقيدة بسبب العقوبات الغربية التي تقلل الوصول إلى السفن والتمويل والتقنيات الأساسية لتطوير أسطول متخصص من ناقلات الغاز الطبيعي المسال.
ومن غير المرجح أن تعوض روسيا خسائر صادرات خطوط الأنابيب بالكامل، رغم النمو المتوقع في صادرات الغاز الطبيعي المسال خلال السنوات المقبلة (بما في ذلك إلى أوروبا، التي ارتفعت وارداتها بالفعل منذ اندلاع الحرب) خاصة من شبه جزيرة يامال. وتكافح غازبروم ماليا بعد أن خسرت جل عملائها الأوروبيين. وأبلغت في2023 عن أول خسارة تشغيلية صافية لها منذ1999. وستتراجع مساهماتها في موازنة روسيا.
الآثار طويلة الأجل
لن يوفر مصدرو الغاز البديل في أوروبا وحولها راحة كبيرة على المدى البعيد لقطع أوروبا شبه الكامل لإمدادات خطوط الأنابيب الروسية. وستركز النرويج (أكبر مصدر للطاقة في أوروبا منذ 2022) أكثر على الحفاظ على مستويات الإنتاج بدلا من زيادتها حتى أواخر العقد الحالي. كما من المنتظر أن تصبح رومانيا مصدرا صافيا للغاز بسبب حقل نبتون ديب البحري الكبير المقرر أن يبدأ الإنتاج في 2027. لكن إنتاجه سيخدم الأسواق المحلية في جنوب شرق أوروبا خاصة.
وقد يوفر شرق المتوسط، حيث أمكن اكتشاف حقول كبيرة خلال السنوات الأخيرة، صادرات جديدة كبيرة. ولكن هذا المدد قد لا يصل حتى العقد القادم. كما تواجه شمال أفريقيا مخاطر سياسية وقيودا على البنية التحتية يمكن أن تؤخر الاستثمارات لزيادة القدرة الإنتاجية والتصديرية أكثر.
وتعتبر منطقة بحر قزوين مصدرا مبشرا لمعتمدي خطوط الأنابيب البديلة مثل أذربيجان وتركمانستان. لكن توسيع هذه الصادرات يتطلب استثمارات كبيرة ووقتا أطول. كما تتمتع دول الخليج مثل قطر والإمارات العربية المتحدة بأكبر إمكانات لزيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. لكن تركيزها سيتمحور حول أسواق آسيا والمحيط الهادئ.
ويمكن معالجة بعض القيود السياسية والمالية والبنية التحتية في هذه المناطق الجغرافية في غضون خمس إلى عشر سنوات. لكنها تقدم حلولا محدودة لتحديات الطاقة الأكثر إلحاحا في أوروبا.
من المرجح أن تحتفظ الحكومات الأوروبية بتدابير الحد من التبعية وتجنب تكرار نقاط الضعف السابقة
ويترك هذا أستراليا والولايات المتحدة (المصدر الرئيسي للغاز الطبيعي المسال في الاتحاد الأوروبي) أكثر المنتجين القادرين على استبدال كميات الغاز الروسي المفقودة.
ومن المتوقع أن ترتفع طاقة الغاز الطبيعي المسال التصديرية في الولايات المتحدة من 13.8 مليار قدم مكعب يوميا إلى 17.8 مليار قدم مكعب خلال 2025، وتبلغ 24.2 مليار قدم مكعب في اليوم بحلول 2028، مع تشغيل العديد من المرافق الجديدة خلال السنوات القادمة.
ويوفر هذا شريان حياة لأوروبا مع فطمها عن الغاز الروسي. لكن هذا لن يحل مشكلة ارتفاع أسعار الطاقة في القارة، مما يزيد من تآكل قدرتها التنافسية الاقتصادية العالمية. كما ستنخفض أسعار الغاز في أوروبا مع وصول وفرة الغاز الطبيعي المسال الجديدة إلى الأسواق العالمية اعتبارا من 2026. لكنها لن تعود إلى مستويات ما قبل الأزمة (قبل 2021).
وستبقى أعلى مما هي عليه في الولايات المتحدة. ويرجع ذلك إلى التكاليف الإضافية المرتبطة بالغاز الطبيعي المسال (كالتسييل والنقل وإعادة التحويل إلى الغاز) التي لا تنطبق على المستهلكين الأميركيين الذين يعتمدون على غاز خطوط الأنابيب المحلية.
ومن المتوقع لذلك أن تبقى أسعار الغاز بالجملة في الاتحاد الأوروبي ضعف الأسعار الأميركية تقريبا (وهو معيار ما قبل الحرب في أوكرانيا). وستنتهي ميزات الطاقة التي استفادت منها أوروبا خلال العقود الماضية مقابل المنافسين الآسيويين. وسيزيد هذا من تضخيم فجوة التكلفة للصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. كما سيؤثر ارتفاع أسعار الغاز مباشرة على أسواق الكهرباء، حيث لا تزال محطات الطاقة التي تعمل بالغاز تحدد السعر في أوروبا رغم انتقال القارة التدريجي بعيدا عن هذه المادة في عمليات توليد الطاقة.
أوروبا أثبتت خلال السنوات الثلاث الماضية قدرتها على تأمين الطاقة دون الحاجة إلى موسكو
ويعرّض الانتقال من خطوط الأنابيب إلى الغاز الطبيعي المسال القارة العجوز للمزيد من التقلبات في السوق، حيث يتواصل شراء جزء كبير من هذا الغاز الطبيعي المسال في السوق الفورية. ويعني هذا ارتفاع فواتير الطاقة للصناعات والأسر التي يمكن أن تعيق الانتعاش الاقتصادي وقدرة أوروبا التنافسية.
وأحرزت أوروبا تقدما في خطط التنويع التي تعتمدها، لكن استمرار ارتفاع أسعار الطاقة قد يحفز في النهاية استئنافا جزئيا لتجارة الطاقة مع روسيا خلال السنوات القادمة.
وسيعتمد هذا على كيفية انتهاء الصراع في أوكرانيا. وتعني متطلبات الإجماع داخل الاتحاد الأوروبي لعقوبات الطاقة أن الانفصال الكامل عن الغاز الروسي يبقى غير مرجح، رغم هدف خطة مبادرة إعادة النظر في قطاع الطاقة بالاتحاد الأوروبي (ريباور إي يو) لسنة 2027، بسبب غياب التوافق في الآراء بين الدول الأعضاء على حظر شامل.
ويمكن أن تجعل بنية خطوط الأنابيب التحتية الحالية إمدادات الغاز الروسية الأرخص جذابة مرة أخرى خلال السنوات القليلة المقبلة، خاصة إذا واصلت تكاليف الطاقة المرتفعة إجهاد القدرة التنافسية. كما لا يمكن استبعاد إعادة فتح نورد ستريم (ما لم تقرر الولايات المتحدة العقوبات على خطوط الأنابيب تمديد و/أو توسيعها).
ويبدو استئناف التدفقات عبر خط أنابيب يامال أقل احتمالا وسط معارضة سياسية من بولندا. ويمكن أن يتضمن اتفاق سلام محتمل في السنوات القليلة المقبلة شروطا لعبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا. وقد تُمنح كييف رسوم عبور تحتاجها للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار إن تمكنت بنية خطوط الأنابيب التحتية في أوكرانيا من النجاة من الحرب.
ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو مع التدهور المحتمل في العلاقات عبر الأطلسي في ظل إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، فهو لا يولي اهتماما بالأولويات الأوروبية.
وأثبتت أوروبا، خلال السنوات الثلاث الماضية قدرتها على تأمين الطاقة دون الحاجة إلى موسكو. ولكن ذلك كان على حساب زيادة تقلبات السوق وارتفاع أسعار الطاقة.
وستكون أيّ علاقة طاقة مستقبلية بين أوروبا وروسيا مختلفة عن الماضي، حيث ستقلل جهود التنويع التي تبذلها أوروبا من النفوذ الجيوسياسي الروسي الذي أسسته صادراتها من الطاقة.
. وستشغل واردات روسيا المتجددة حصة أصغر بكثير ضمن مزيج الطاقة الأوروبي المستقبلي.