ألحق الدبلوماسي الأميركي مايكل مورفي ضررا بسيادة البوسنة والهرسك في ما يتعلق بتوفير إمدادات الغاز وزاد حدة عدم الاستقرار في منطقة البلقان، تحت شعار “سياسة الهوية” الذي ترفعه واشنطن في التعامل مع الدول الخارجة من الحروب أو الصراعات.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية، تناول ماكس بريموراك، الباحث الزميل في برنامج مركز مارغريت تاتشر للحرية التابع لمؤسسة هيرتديغ الأميركية، أزمة خط أنابيب الربط الجنوبي للغاز الطبيعي الذي تنفذه كرواتيا.
وتستهدف كرواتيا مده إلى البوسنة المجاورة لنقل الغاز الطبيعي الأميركي إليها، وإنهاء اعتمادها على استيراد الطاقة من روسيا.
وكانت الحكومة الكرواتية تحدت في عام 2019 ضغوط جماعات الدفاع عن المناخ، وأقامت محطة عائمة لاستقبال الغاز الطبيعي المسال لتقليل اعتماد أوروبا الشرقية على الطاقة الروسية.
وهذه الأهمية الإستراتيجية للمشروع يمكن أن تساعد في جعل الولايات المتحدة أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. كما تريد كرواتيا تمديد خط أنابيب نقل الغاز إلى دول أخرى في المنطقة.
ويقول بريموراك إن وزارة الخارجية الأميركية تعرقل خطة تمديد خط أنابيب الربط الجنوبي إلى البوسنة بسبب ما تعتبره مشروع بناء هذه الدولة.
ويستهدف ذلك الأمر إجبار الأقليتين الكاثوليكية الكرواتية والأرثوذكسية الصربية على التخلي عن هويتيهما وتبني الهوية البوسنية التي تتبانها فقط القيادة المسلمة لهذه الجمهورية ذات الأغلبية المسلمة.
والحقيقة أن الكثير من البوسنيين المسلمين أنفسهم حصلوا على الجنسية الكرواتية، وهو ما يعني أنهم لا يؤمنون فعليا بوجود هوية بوسنية، وفق بريموراك القائم بعمل مدير العمليات في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية سابقا.
والمعروف أن البوسنة التي كانت إحدى جمهوريات دولة يوغوسلافيا السابقة لم تخرج من إطار اتفاقيات دايتون للسلام عام 1995 التي أنهت الحرب في البلقان.
ومنذ ذلك الوقت تعيش الدولة أسيرة إطار دستوري غير عملي، إذ سعى الدبلوماسيون الدوليون إلى فرض أجندة أيديولوجية “مناهضة للقومية” في حين يتمتعون بالسلطة القانونية النهائية على البلاد.
ويحكم الصرب نصف البلاد، ويحكم كروات وعدد أكبر من المسلمين البوسنيين النصف الآخر بشكل مشترك. ولا يتمتع أي من الكيانين بالسيادة، وهو ما جعل البوسنة “دولة فاشلة” حتى الآن.
وقدم قانون جديد لتفويض تمديد خط الأنابيب، للسفير المنتهية ولايته مورفي فرصة أخيرة لفرض “سياسة الهوية” على البوسنة بإجبار البرلمانيين الكرواتيين على تسليم السيطرة على خط الأنابيب إلى شركة الغاز الحكومية الفاسدة والمثقلة بالديون في سراييفو في بلد يصنف مستوى الفساد فيه على أنه أسوأ من مستوى الفساد في أوكرانيا.
ويتألف فريق إدارة شركة بي.إتش غاز بالكامل من البوسنيين، مما يعكس التمييز المنهجي في التوظيف، الذي أدى إلى تقليص عدد السكان الكرواتيين في الدولة إلى النصف.
فريق إدارة بي.إتش غاز يتألف بالكامل من البوسنيين، ما يعكس التمييز في التوظيف، والذي قلص عدد الكرواتيين إلى النصف
ويسعى القادة الكرواتيون إلى إنشاء جسم جديد لإدارة المشروع. ومع ذلك، تم تمرير القانون دون أصوات كرواتية، مما أدى إلى تفاقم التوترات بين الطائفتين.
وانتقد نائب رئيس البرلمان البوسني ملادن بوسكوفيتش وهو من الكروات القانون قائلا “تمت صياغته بطريقة تم بها استبعاد الكروات من المشاركة في عملية تصميم وتوجيه خط أنابيب الغاز، ما يجعل قرارات الشركة تحت السيطرة الكاملة للطرف البوسني.”
ووجه الرئيس الكرواتي زوران ميلانوفيتش، أحد مؤيدي خط الأنابيب، توبيخا حادا للسفير الأميركي متهما “جهات أجنبية بإذلال البوسنة والهرسك وتفكيكها بشكل منهجي كدولة.”
وكان تدخل مورفي الصريح لإقرار قانون الغاز البوسني غير مسبوق. فقد اتهم النواب من أصل الكروات علنا بالتواطؤ مع روسيا لمعارضتهم للقانون، واتهم زعيمهم المنتخب بالسعي إلى “المنافع السياسية والاقتصادية الشخصية.”
واستقال المدير السابق لبي.إتش غاز في وقت سابق حتى لا يصبح “شريكا في الأفعال الإجرامية التي ترتكبها الشركة”.
ولاحق حوالي اثنى عشر موظفا في السفارة الأميركية البرلمانيين الكروات في مكاتبهم أثناء إجراءات التصويت على القانون، مما دفع بعض هؤلاء النواب إلى مغادرة المبنى احتجاجا على الضغوط الأميركية.
الصين تستفيد من التوترات المتنامية داخل أوروبا، وكذلك تركيا، نظرا لعلاقاتها القوية مع القيادة المسلمة في سراييفو وطموحها العالمي للترويج للإسلام السياسي
ووفقا لوسائل الإعلام المحلية، فقد مورفي هؤلاء النواب بفرض عقوبات عليهم. كما هدد الدبلوماسيون الأميركيون البرلمانيين المسلمين الذين شعروا بعدم الارتياح إزاء كسر تقليد قاعدة إقرار التشريعات الرئيسية بإجماع النواب المسلمين والكروات، بالفصل من البرلمان إذا صوتوا ضد مشروع القانون.
وتعد منطقة خط الأنابيب المنتظر مألوفة للملايين من الكاثوليك الأميركيين، حيث يمر الخط عبر قرية مديوجوريه، التي يزورها 40 مليون حاج مسيحي يعتقدون أنها استضافت ظهورات العذراء مريم.
وفي الوقت نفسه يشكل الجمع بين الحماسة المسيحية والمنافع الاقتصادية التي تجنيها المنطقة عقبة أمام الحملة العالمية لإدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن للسماح بالإجهاض ودعم المثلية الجنسية، وهي الحملة التي قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن إنها تصب “بشكل عميق في مصلحتنا الوطنية.”
ويرى بريموراك أن روسيا هي المستفيد الأكبر من هذا القانون الذي ضغط مورفي من أجل تمريره، لأنه من غير المرجح مضي كرواتيا قدما في مشروع خط الأنابيب، مادام تم استبعاد الأقلية الكرواتية من المشروع.
كما تستفيد الصين من التوترات المتنامية داخل أوروبا، وكذلك تركيا، نظرا لعلاقاتها القوية مع القيادة المسلمة في سراييفو وطموحها العالمي للترويج للإسلام السياسي.
في المقابل تضم قائمة الخاسرين الكروات البوسنيين الذين لا يرون أن لهم مصلحة كبيرة في دولة تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية. كما أن قانون مورفي يقوض احتمالات تأمين الهيمنة الأميركية على سوق الطاقة في أوروبا.
والآن ينتقل قانون الغاز إلى مجلس الشعوب، وهو الغرفة العليا للبرلمان البوسني، حيث يحتاج إلى موافقة أغلبية الأعضاء المسلمين والصرب والكروات، حيث تتمتع كل كتلة من الثلاث بحق النقض (فيتو).
ومن المتوقع أن يخسر الكروات هذه الحماية الدستورية أيضا، فضلا عن الممثل الأعلى للبلاد، وهو دبلوماسي أوروبي منحته اتفاقية دايتون حق القول الفصل في كل قوانين البوسنة.