لا ينفصل الفن عن السياسة في أي أرض. وفي بلادنا العربية بالذات تتوثق بين المجالين عرى هذه العلاقة بشدة، فيتساءل المشاهد كثيرا عمّا تحمله الأعمال الفنية من رسائل سياسية، مع الأنظمة الحاكمة أو ضدها. وفي حالة الفنان السوري جمال سليمان تقصر المسافة بين الفن والسياسة كثيرا، بحكم ما قدّمه من أعمال فنية، وكونه معارضا لنظام الرئيس السابق بشار الأسد، وممارسته العمل السياسي بالفعل على مدى سنوات من خلال هيئة التفاوض المعارضة.
واستضافت لجنة الشؤون العربية بنقابة الصحافيين المصريين برئاسة حسين الزناتي الفنان السوري الذي تحدث باستفاضة على مدى مئة دقيقة عن مختلف القضايا والملفات الفنية والسياسية في اللحظة المفصلية الراهنة التي تمر بها سوريا، والتي قال إنه لم يزرها منذ 12 عاما مضطرا، ولم يعد له بيت بها بعد أن تم هدمه، وإن مصر كانت له وطنا بديلا.
وسألت “العرب” الفنان جمال سليمان حول دوره في مسلسل “العراب” الشهير عام 2015، إخراج الراحل حاتم علي، وهو بجزأيه إسقاط فني واضح على عصري الرئيس حافظ الأسد وابنه بشار، وكيف تم تمريره رقابيا، وما إذا كان تعرض لمضايقات بسبب المسلسل.
وأوضح سليمان لـ”العرب” أن المسلسل لم يعرض على الرقابة السورية وتم تصويره بالكامل في لبنان. وكشف لأول مرة أهداف صناع المسلسل ورسالتهم التي أرادوا توجيهها قائلا “هذا المسلسل عملناه كي نقول لبشار الأسد أنت كذاب. لم يكن لديك مشروع إصلاحي عطَّله الحرس القديم. ما حدث هو صراع بينك وبين الحرس القديم على كعكة الفساد وليس على الإصلاح. ومن خالفك قتلته. وانتهى أبوعلياء (الشخصية التي لعبها سليمان) بقتله في ختام الجزء الأول. وأنا من كتبت مشهد النهاية.”
النظام السوري والدراما
كشف الفنان السوري سر تمتع الأعمال الفنية السورية بالقدرة على التعبير بحرية كبيرة أحيانا، بالرغم من وجود النظام الاستبدادي، شارحا مسار تطور العلاقة بين النظام وصناع الدراما منذ زمن الوحدة بين مصر وسوريا.
وبدأت الدراما السورية مع بداية التلفزيون في البلاد (تلفزيون الوحدة). و معظم كُتاب المسلسلات كانت لهم ميول يسارية واشتراكية وقومية عربية، فكانت الأعمال السورية عبر تاريخها منحازة لقضايا الفقراء والمرأة والطفل، ولها مواقف ضد الظلم والاستغلال والاستعباد والطغيان، ثم جاءت فترة ماتت فيها الدراما ولم يعد هناك سوى المسلسل المصري.
وفي عام 1987 تم إجراء تغيير وزاري، وتولى محمد سلمان وزارة الإعلام، فالتقاه الرئيس الأسبق حافظ الأسد وقال له إن التلفزيون السوري ليس سوريا باستثناء النشيد الوطني ونشرات الأخبار، أما الباقي كله فهو مصري، حتى على مستوى قراء القرآن الكريم، إذ كانت تذاع تلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد أو أبوالعينين شعيشع وغيرهما. وطلب الأسد من الوزير أن يجد حلا ليكون التلفزيون السوري سوريا.
وبدأ محمد سلمان التواصل مع أهم سبعة مخرجين في التلفزيون، منهم خمسة كانوا رفيعي الثقافة ولديهم اهتمام بالشأن العام وأفكار العدالة الاجتماعية ولهم مواقف نقدية، فأخبروه بأن قوانين الدولة لا تسمح بالإنتاج الخاص لأن التلفزيون الرسمي هو الجهة الوحيدة التي تنتج المسلسلات، والموازنات فيه قليلة، والبيروقراطية قاتلة، إذ تستغرق الموافقات الورقية لأيّ مسلسل ستة أشهر.
وعندئذ سألهم الوزير عن إمكانية الإنتاج الخاص لو تم تغيير القوانين، فعادوا للرد بأنهم ليست لديهم أجهزة للتصوير، فالقانون يمنع استيرادها، وهو ما يعلق عليه جمال سليمان ساخرا “كان استيراد كاميرا فيديو أمرا مستحيلا يهز أركان الأمن القومي السوري،” وعرض الوزير عليهم أن يمنحهم الأجهزة من التلفزيون مقابل أن يعطوا التلفزيون نسخة من المسلسل الذي يتم إنتاجه مجانا، فوافقوا.
وكان من بين هؤلاء المخرجين هيثم حقي الذي باع بيته كي ينتج مسلسل “دائرة النار” والذي لاقى نجاحا مذهلا في العالم العربي، إذ تزامن هذا مع انفجار البث الفضائي العربي وظهور القنوات الفضائية التي أصبحت بمنزلة “زبون” يريد شراء المواد لأنها تبث على مدى الأربع والعشرين ساعة وليس مجرد بضع ساعات فبدأ الطلب يزداد على المسلسل السوري.
وكانت هناك أزمة في الدولار، وإذا تم ضبط مواطن بحوزته مبلغ مئة دولار فقط فإنه يكون عرضة لأن يزج به إلى المحاكمة ولا يخرج من السجن إلا بعد عشرين عاما (كما يقول جمال سليمان) فالتفت التجار الذين يحتاجون بالطبع إلى العملة الأجنبية لتجارتهم إلى أن إنتاج المسلسلات يمكن أن يوفرها لهم من خلال القنوات الفضائية التي ستدفع لهم وتحول المبالغ إلى حساباتهم في الخارج.
مسكونون بالتاريخ
بدأ هؤلاء التجار يدخلون مجال الإنتاج الفني، كعملية تجارية فحسب، دون أن يهتموا حتى بقراءة النصوص، فعمل المخرجون والكتاب والفنانون بحريتهم، أو كما يصف سليمان المشهد قائلا “نكتب النص بمزاجنا ونُخرج وهكذا، وبدأت الدراما السورية تلمع في العالم العربي.”
وحول هامش الحرية وكيفية الإنتاج الفني في ظل الأنظمة الدكتاتورية، قال نحن كفنانين نعرف السقف المسموح به، فكنا لا نكسر الحائط، لكن نلامسه بأكتافنا، ونسعى إلى إزاحته قليلا دون أن يشعر أحد، “سنتيمتر واحد ثم اثنين ثم يلاحظوا فيرجعوننا نصف سنتيمتر لكننا نكون قد أزحنا الحائط في المحصلة،” وهكذا كانت تجري المعارك مع الرقابة والنظام.
وانتشر المسلسل السوري بشكل كبير، وأصبح بعض الرؤساء العرب يحدثون حافظ الأسد عندما يلتقونه عن المسلسلات السورية ويشيدون بها، فيسعد بهذا، وبدأت القصص والمسلسلات تتوالى وتستمر.
“السوريون مسكونون بالتاريخ”، هكذا بدأ جمال سليمان تعليقه على المسلسلات التاريخية السورية، لاسيما تلك التي أخرجها المبدع الراحل حاتم علي وكتبها وليد سيف الذي وصفه بأنه “شكسبير العرب”، قائلا إن مسلسل “صقر قريش” تم تصويره في خمس مدن سورية بأريافها وست مدن مغربية بأريافها، وأن مرحلة توهان عبدالرحمن الداخل في المسلسل استلزمت قطع مسافة في الصحراء لمدة اثنتي عشرة ساعة بقافلة مكونة من ستين سيارة تضم الخيام والخيول والإكسسوارات.
وقال ضاحكا “يمكن أن يستعير مقولة خالد بن الوليد بأنه ليس في جسده موضع ليس به إصابة،” إذ تعرض سليمان لكسر في الكتف كما أصيب في العمود الفقري نتيجة ما شهده من حوادث وبسبب ركوب الخيل على مدى سنوات، فقد كان الجميع مصرا على تقديم أعمال كبيرة بأقل الإمكانات بسبب شيء اسمه الشغف، “فالشغف لو لم يوجد لدى الفنان ربما يأتي الفن جيدا لكن بلا طعم،” على حد وصفه.
ولم يكن هناك فصل في حياة جمال سليمان بين محبته للفن واهتمامه بالشأن العام بأبعاده الاجتماعية والتاريخية والسياسية، فكل قصة حب في أيّ عمل فني بين شابين يريدان الزواج لا ينظر إليها باعتبارها منفصلة عن الواقع الاقتصادي والسياسي، تلك قناعته وقناعة جيل من الكتاب والمخرجين والفنانين.
ربيع أم خريف عربي
أضاف سليمان “كان عندي وجهة النظر عندما بدأت الثورة في سوريا في إطار الربيع العربي، إذ كانت هناك تساؤلات كثيرة عمّا إذا كان ربيعا أم خريفا أم استحقاقا وطنيا أم مؤامرة خارجية، والحقيقة أنني بعد البحث والتقصي وجدت أن ما حدث خليط من كل هذه الأشياء. وما حصل في سوريا بالتحديد كان استحقاقا تاريخيا.”
وأوضح أن سوريا أيام حافظ الأسد كانت محكومة بالقوة الأمنية الجبرية، وكانت أجهزة الأمن تحصي على الناس أنفاسهم، وفي نفس الوقت كانت هناك حكمة سياسية أوجدت نوعا من التوازن داخل المجتمع.
ورأى جمال سليمان أن حافظ الأسد كانت لديه براعة في إدارة ملفات خارجية سياسية وأمنية مهمة “تكاد تكون أكبر من حجم سوريا،” بدهاء وسياسة مبنية على تحالفات دقيقة للغاية، فكانت لسوريا علاقات مميزة مع إيران لا تطغى على علاقاتها مع الدول العربية التي كانت أكثر تميزا.
ورغم كل هذا نقل الحكم إلى ابنه مع أنه يعرف جيدا أنه ليس لديه الكفاءة اللازمة لذلك وأن “سوريا كبيرة عليه،” وتم قمع كل أشكال المعارضة فلم تكن هناك بدائل بعد حافظ سوى ابنه.
واعتبر الفنان السوري أن “المقارنات التي كانت تجري أحيانا بين مصر وسوريا خلال فترة حكم الرئيس حسني مبارك رحمه الله غير جائزة، لأن هامش الحريات في وسائل الإعلام بمصر كان يمكن معه أن يكتب الصحافيون مقالات لو تم كتابة ربع ما جاء فيها بسوريا لما عرف أهل الصحافي أين تم دفنه ليضعوا الورود على قبره.”
وتعرّف جمال سليمان مثل كثيرين غيره، كما يقول، على بشار الأسد قبل أن يكون رئيسا وبعدها “كنا صريحين جدا معه وتكلمنا بروح وطنية وبشجاعة حول الواقع، فأبدى قدرا كبيرا من التفهم والوعد بالإصلاح، فالشعب السوري أحب بشار الأسد على وعد الإصلاح، والتغيير في كل المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، لكنه تنكر لكل وعوده بما فيها الوعد بالقضاء على الفساد الذي كان يأكل سوريا، وأكبر نصير للربيع العربي أو أيا ما كانت تسميته هو أن الفساد عدو الاستقرار.”
وبدلا من أن يحارب بشار الفساد كما وعد أصبح على رأس الفساد بشكل مباشر، وأصبح كثيرا ما يقال إن فلانا هو شريك بشار وإن هذا مشروع بشار، من الفنادق والبنوك إلى حد المطاعم، فحدثت خيبة أمل كبيرة، وانتقلت العدوى من مصر إلى سوريا، وخرج السوريون هاتفين مطالبين بالحرية، فما يحدث في مصر له انعكاس مباشر دوما على سوريا.
الأسد أو نحرق البلد
ذكر جمال سليمان في ندوته بنقابة الصحافيين بالقاهرة “أدركت أن عملية إسقاط النظام لن تكون إلا بإسقاط الدولة كلها، وعبر بحور من الدماء، لذلك لم أطالب بإسقاط النظام في البداية، لأن بشار كتب منذ اليوم الأول على مؤسسات الدولة كلها عبارة ‘الأسد أو نحرق البلد‘، وقلت له مباشرة: يا سيادة الرئيس لا أحد يضع وطنا مقابل شخص ومن كتب هذا الشعار أخطأ في حق سيادتك.. وتغير هذا الشعار عبر الزمن ليصبح ‘الأسد أو لا أحد‘.. فلم يكن هناك فرق.”
وامتلأت السجون بالمعتقلين في شهر من المتظاهرين في يونيو 2011، وتم إصدار عفو بعدها عن الجماعات الجهادية في السجون، وصارت المواجهة مسلحة تحت شعارات إسلامية، وظهرت أزمة تعدد الشعارات.
وانضم الفنان السوري إلى المعارضة المدنية الديمقراطية، قائلا “عقدنا في القاهرة مؤتمر المعارضة السورية المدنية الديمقراطية في جولتين عام 2015، وطالبنا بإزالة نظام الاستبداد، ثم انخرطنا في جهود توحيد المعارضة في الرياض من خلال هيئة المفاوضات التي كنت عضوا فيها ونائب رئيسها في إحدى الفترات، وذهبنا إلى مفاوضات جنيف،
وصارت هناك أطراف دولية عديدة متدخلة في القضية السورية التي أصبح أضعف طرف فيها لعشر سنين هو السوريون، حتى استيقظ الجميع على هروب الرئيس تاركا البلد مهدما والشعب في حيرة.”
واعتبر جمال سليمان أن الانتصار الذي تحقق برحيل النظام ليس حكرًا على أحد، إنما نتاج كفاح طويل لكل من دافع عن سوريا على مدى السنوات الماضية، بما في ذلك كل أم ثكلى أو ما زالت تبحث عن ابنها في السجون. ولهذا فالشعب السوري لن يقبل استئثار فصيل واحد بالسلطة، بل لا بد أن تكون سوريا لكل السوريين، لأنها تستحق نظاما سياسيا يعبر عن مختلف أطياف الشعب ويضمن التعددية والعدالة.
تطمينات الإدارة المؤقتة
الفن لا ينفصل عن السياسة في أي أرض. وفي بلادنا العربية بالذات تتوثق بين المجالين عرى هذه العلاقة بشدة
قال الفنان السوري إن الإدارة المؤقتة الجديدة ترسل رسائل طيبة حتى الآن، معبرا عن رغبته في ألا يتحول الوضع في سوريا إلى صراع على السلطة، داعيا إلى إجراء حوار وطني بين كل الأطياف، يقوم على قاعدة المصالح الوطنية، وأن يتم تشكيل جمعية تأسيسية لإعداد الدستور.
وحول إعلانه الترشح لرئاسة الجمهورية أوضح أنه قال ذلك قبل سنوات ردا على الدعوات التي كانت تظهر بأنه لا بديل للأسد، وكان بعض الدبلوماسيين الغربيين يقولون ذلك أيضا في الاجتماعات، مع أن هناك بدائل عديدة في سوريا.
وقال “البعض دعّمني، والبعض قال إننا لا نقبل بأن يكون رئيسنا علويا، وهذا أغضبني. والدي علوي المذهب وأمي سنية، وأنا مسلم فقط، ومنصب الرئيس لا علاقة له بالمذاهب، إنما هو رجل يؤدي وظيفة لخدمة مصالح الشعب. ونحن الآن في مرحلة إنقاذ سوريا وإعادة الحياة إلى كل مؤسساتها الوطنية، وعندما يكون لدينا دستور جديد وبيئة صالحة للانتخابات سيكون لكل حادث حديث.”
وفي كل الأحوال، فإن الشعب السوري، كما يقول جمال سليمان، لا يمكن أن يستغني عن الفن، بمختلف الطوائف والأعراق، بما فيه من متدينين وغير متدينين، فالفن هو ما يرتقي بالقيم، ولهذا سعد بكلمات سيدة سورية تقيم في الغرب قالت له إنها جعلت ابنتها تشاهد مسلسل “الفصول الأربعة” الشهير الذي يعشقه السوريون، ليسهم في صقل أفكارها وتربيتها على المبادئ بالرغم من أنه أذيع قبل ربع قرن.