يكتسي التعداد العام للسكان الذي أجري الأربعاء والخميس في العراق أهمية سياسية لحكومة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني تتجاوز البعد التقني للعملية التي تمارَس بشكل دوري في أغلب دول العالم كإجراء لصيق بالاقتصاد والتنمية البشرية.
ويحسب النجاح في إجراء التعداد المعطّل منذ سبعة وثلاثين عاما بسبب الإشكالات القومية والإثنية المتعلّقة به، كإنجاز في رصيد السوداني الذي حرص على تسويق صورة لحكومته مختلفة عن صورة سابقاتها التي تلبّس بها شيوع الفساد وتغلغله في مفاصل الدولة وتوقُّف عجلة التنمية وغرقُ البلد في توتّرات أمنية دموية بلغت أشدّها مع سيطرة تنظيم داعش على مساحات شاسعة من أراضيه والحرب الدامية التي دارت ضدّه وما أحدثته من مآس وخسائر في الأرواح ودمار في البنى التحتية.
ولم يوفّق رئيس الحكومة في الإيفاء بجميع وعوده وخصوصا ما يتعلّق منها بمحاربة الفساد، لكنّ عهده لم يخل من إنجازات يحاول الاستناد إليها في مواجهة كبار خصومه من داخل عائلته السياسية الشيعية والساعدين إلى قطع مسار صعوده السياسي ومنعه من مواصلة قيادة السلطة التنفيذية إثر الانتخابات البرلمانية القادمة.
وعلى هذه الخلفية برزت الحاجة إلى عمل دعائي حكومي يقوم على تضخيم أهمية التعداد السكاني والمبالغة في تسويق النتائج التي ستترتّب عنه لجهة تنشيط التنمية في المحافظات وتحسين الخدمات وتقليص الفقر وتوزيع الموارد بشكل أكثر عدالة بين الجهات.
وتبدو تلك الأهداف مبالغة في طموحها خصوصا وأنّها تقفز على الأسباب الحقيقية التي حالت دون تحقيقها على مدى العقدين اللذين أعقبا تغيّر النظام في البلد، وتتمثّل خصوصا في شيوع الفساد والطائفية السياسية والتنافس غير الشريف على السلطة والعجز عن إرساء استقرار أمني صلب وثابت، فضلا عن تورّط البلاد في سياسة المحاور بفعل تخندق القوى القائدة بشكل رئيسي لنظامها إلى جانب إيران والتورّط في صراعاتها وخدمة مصالحها وإنْ على حساب المصالح العليا للعراق.
وتحدّث الناطق باسم وزارة الإعمار والإسكان والبلديات العامة في الحكومة العراقية نبيل الصفار الخميس عن نتائج كبيرة لعملية التعداد السكاني من بينها توفير قاعدة بيانات لتحديد عدد المشاريع وإطلاقها وفق النسبة السكانية وذلك خلافا لجميع الإحصائيات السابقة التي وصفها بأنهّا مجرّد أرقام تقديرية.
ونقلت وكالة الأنباء العراقية عن الصفار قوله إنّ الوزارة ستكون من ضمن الجهات الحكومية المستفيدة من التعداد السكاني الذي سيوفر قاعدة بيانات وأرقاما صحيحة بشأن السكن بالدرجة الأساسية وحجم الحاجة السكانية الفعلية التي يحتاجها البلد.
وتعتبر قضية الإسكان من بين المآخذ الكبيرة على عمل الحكومات العراقية التي تعاقبت على البلد طيلة العقدين الماضيين وأهدرت مبالغ طائلة من عوائد النفط، حيث تفاقمت المشكلة إلى درجة ظهور أحزمة للعشوائيات وأحياء الصفيح حول بغداد والمدن الكبرى بعيدة عن أيّ شكل من أشكال التهيئة العمرانية ومفتقرة إلى سائر الخدمات والبنى الضرورية من ماء وكهرباء وطرقات مبلطة وشبكات للصرف الصحّي.
وأضاف الناطق باسم الوزارة أن “جميع الإحصائيات السابقة هي عبارة عن أرقام تقديرية بُنيت على إحصائيات سابقة وفق معادلات رياضية حيث لا توجد أرقام رسمية معتمدة”، معتبرا أن “التعداد السكاني سيؤدي إلى معرفة حجم الفجوة السكانية في كل منطقة خصوصا بعد زيادة عدد مساكن العشوائيات التي سيحددها التعداد”.
ومن فضائل التعداد وفقا للمسؤول الحكومي أنّه “سيحدد أيضا انطلاق أعمال المشاريع السكنية التي تعتمد بالدرجة الأساس على عدد سكّان كل منطقة، وكذلك خط الفقر وقدرة المواطن الشرائية على اقتناء تلك الوحدات السكنية،” مشيرا إلى أن “التخطيط في وزارة الإعمار سيكون أعم وأشمل وفق الإحصائيات الجديدة التي سيوفرها التعداد العام للسكان”.
وتمكّن العراق يومي الأربعاء والخميس من إجراء المرحلة الحاسمة من عملية التعداد السكاني الشامل لمختلف مناطقه والتي انطلقت قبل فترة بإجراء عمليات الحصر والترقيم.
ولتذليل الصعوبات التي حالت دون إجراء التعداد منذ سنة 1987 لجأت حكومة السوداني إلى قرار وصف بالذكي والجريء وتمثّل في عدم تخصيص حقل للقومية في استمارة التعداد وذلك للنأي بالعملية عن الصراعات العرقية التي تدور حول انتماء عدد من المناطق التي توصف بالمتنازع عليها وخصوصا محافظة كركوك الغنية بالنفط والتي يطالب أكراد العراق بضمّها إلى إقليمهم بينما يتمسّك أبناء المكون العربي بتبعيتها للدولة الاتّحادية.
وتشير الأرقام المعتمدة حاليا وفقا لتقديرات رسمية إلى أنّ سكان العراق الذي عرف عقودا من النزاعات والعنف يبلغ أكثر من أربعة وأربعين مليون فرد، أربعون في المئة منهم يبلغون من العمر خمسة عشر عاما أو أقلّ.
وشمل التعداد للمرة الأولى منذ السنة المذكورة المحافظات العراقية الثماني عشرة بعدما كان قد أُجري سنة 1997 تعداد استثنى المحافظات الثلاث التي تشكل إقليم كردستان، أربيل ودهوك والسليمانية.
وحرص رئيس الحكومة على إجراء التعداد “لما يمثله من أهمية في دعم خطوات التنمية والتخطيط في كل القطاعات المساهمة في ارتقاء العراق وتقدمه” حيث الكهرباء غير متوافرة إلا بضع ساعات يوميا والبنى التحتية متداعية.
وفي إجراء لصيق بالتعداد أظهر أيضا قدرة السلطات العراقية على السيطرة على مجالها بعد سنوات من الاضطراب الأمني الشديد، حُظر على سكان البلاد من عراقيين وأجانب التنقل يومي التعداد إلا في حالات الضرورة وذلك للسماح لما يزيد عن 120 ألف باحث ميداني في مختلف الأحياء والمساكن لجمع البيانات الشخصية والعائلية للسكان.
وضمّت استمارة التعداد أسئلة حول عدد أفراد الأسرة ووضعهم الصحي والتعليمي والمهني والاجتماعي، بالإضافة إلى مقتنياتهم من وسائل نقل وأجهزة منزلية، بهدف تحديد مستواهم المعيشي.
وما يضفي على النجاح في إجراء التعداد السكاني قيمة إضافية تحسب في رصيد الحكومة الحالية، أنّه أُرجئ عدّة مرات بسبب خلافات سياسية في البلد الذي عرف نزاعات بينها حرب طائفية بعد الغزو الأميركي له وسيطرة تنظيم داعش بين سنتي 2014 و2017 على أجزاء واسعة منه.
لكن في السنوات الأخيرة بدأ يسود البلدَ استقرارٌ نسبي على الرغم من تزعزع التوازنات خلال عقدين من العنف جرّاء هجرة الآلاف من المسيحيين وفرار عشرات آلاف من العائلات الإيزيدية من قضاء سنجار بشمال البلاد جرّاء سيطرة التنظيم المتطرف على منطقتهم.
وجرى التعداد بالتعاون بين وزارة التخطيط العراقية وصندوق الأمم المتحدة للسكان الذي رأى في العملية أداة مهمة لـ”تزويد العراق بمعلومات ديمغرافية دقيقة وتسهيل عملية صنع السياسات الفعالة”.
وقال المتحدث باسم وزارة التخطيط عبدالزهرة الهنداوي إن “غياب التعداد كل هذه السنوات خلق فجوة كبيرة وأبرز الحاجة إلى البيانات حول المشكلات التي تكتنف التنمية والخدمات في مجال الصحة والتعليم والسكن”.
وافترض المحلل السياسي علي البيدر أنّ يكون هذا التعداد أكثر واقعية قياسا بكل عمليات الإحصاء السابقة وأن يتيح “إدارة أفضل لمؤسسات الدولة لأن معظم الأرقام المعتمدة اليوم هي تخمينات أو تقديرات”.
وأثار الخبير السياسي في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية حمزة حداد جانبا آخر من أهمية التعداد السكاني في العراق. وقال لوكالة الأنباء الفرنسية إن “التمثيل البرلماني سيتغيّر” تبعا لنسبة السكان في كل منطقة.
وينصّ الدستور العراقي على أن يكون لكل مئة ألف عراقي نائب يمثلهم في البرلمان، ولذلك بحسب حدّاد “يجب تعديل الأعداد حين يوجد إحصاء رسمي”.
وضمّت استمارة التعداد سؤالا عن الديانة من دون الطائفة ومن دون القومية التي كانت مطلوبة في الإحصاءات الماضية. وأشار الخبير إلى أن الإحصاء هذه المرة “يفتقر إلى تفاصيل أساسية ربما من أجل إرضاء جميع الأطراف والسماح أخيرا بإجراء التعداد”.