مواقع عديدة تبدلت وخرائط جديدة رُسمت بعد الحرب في أوكرانيا وغزة ولبنان، في حقل الإعلام، إذ أصبح الحديث عن الحياد أوتحري الموضوعية من الماضي، حيث تصطف كل صحيفة وقناة وموقع إلكتروني في الجانب الذي تؤيده، ما فتح الباب أمام لاعب جديد كان يوصف بالسطحية والسذاجة، إلا أن غياب المصداقية عن بعض وسائل الإعلام في زمن الحرب أتاح له لعب دور البطولة، هذا اللاعب هو “المواطن الصحافي”، أي المستخدم العادي للسوشيال ميديا.
يحتاج هذا المشهد الجديد إلى مراقبة ورصد من أجل الدراسة والبحث وفهم الأبعاد المستقبلية، لذا نظم قسم الصحافة والإعلام بكلية الشؤون العالمية والسياسات العامة بالجامعة الأميركية في القاهرة، بالتعاون مع جامعة أوسلو ميتروبوليتان بالنرويج، مؤتمرا قبل أيام تحت عنوان “صحافة الحرب والصراع في العصر الرقمي: ما هي المخاطر”، بحضور نقيب الصحافيين المصريين ونخبة من خبراء الإعلام.
ويعد انحياز الإعلام عاملا مشتركا بين حربي أوكرانيا وغزة، إلا أن المفارقة اللافتة كشف عنها نضال منصور مؤسس وعضو مجلس إدارة مركز حماية وحرية الصحافيين بالأردن، قائلا إن عدد الصحافيين القتلى منذ بداية حرب أوكرانيا المستمرة منذ ثلاث سنوات 17 صحافيا، بينما راح أكثر من 180 صحافيا ضحية في حرب غزة حتى الآن.
ويوضح التفاوت الهائل بين الرقمين أن إسرائيل قررت أن تقوم بجريمة حرب كاملة دون السماح بوجود شهود عليها أو اهتمام بحق الإنسان في المعرفة من خلال الإعلام ومندوبيه وهم الصحافيون، الذين أصبحوا يواجهون القتل وأسرهم وتدمير بيوتهم، إذ لم يعد في غزة مكان آمن.
ويأتي تواطؤ بعض وسائل الإعلام الغربية لتتحجج بقسوة تأثير نشر الصور على أسر الضحايا لتخفي مجازر فلسطين، ما دفع نضال منصور إلى التساؤل “هل ستكون الصورة أقسى على الضحية من قتل أسرته بالكامل”.
وأكد أن الكثير من المؤسسات الإعلامية قررت أن تتخلى عن مهنيتها، واختارت الانحياز لمصالح الاحتلال الإسرائيلي، برغم أن القائمين عليها يعلمون تماما المبادئ المهنية، لكنهم يطبقون سياساتهم ولا يهتمون.
يبدو أن هذا الانحياز لا تخفيه المؤسسات الإعلامية الكبرى ولا تنكره، كما يتضح من واقعة بعينها تشير إليها زاهرة حرب، مديرة الدراسات العليا ودراسات الصحافة الدولية بجامعة لندن، إذ جمعها مؤتمر أقيم في طوكيو بأحد مسؤولي السياسة التحريرية في شبكة “بي.بي.سي” الذي واجه اتهامات بالانحياز في تغطية الصراع في أوكرانيا عند مقارنتها بتغطية الصراعات الأخرى، ولم تكن حرب غزة قد اندلعت بعد، ليقول عندئذ بوضوح “إن عدم الانحياز ليس أمرا خاليا من القيم”، وإنهم لا يتعاملون في ما يتعلق بمفهوم عدم الانحياز مع الأنظمة غير الديمقراطية مثلما يتعاملون مع الأنظمة الديمقراطية.
وتساءلت حرب عما يعنيه هذا بالنسبة إلى مؤسسات إعلامية يتطلع إليها الصحافيون العرب في العادة باعتبارها بوصلة في ما يتعلق بالمهنية، مشيرة في المقابل إلى وجود مساحة حرية أكبر على السوشيال ميديا من الحرية المتاحة في الصحف والمنصات، ووجود شباب قادر على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لإنتاج محتوى ينقل السردية الحقيقية للصراع.
ودور هؤلاء الشباب المؤثرين على السوشيال ميديا في نقل السردية العربية للحرب في غزة، ينظر إليه الصحافي طارق سعيد منسق منتدى المحررين المصريين بإيجابية شديدة، إذ رأى أن وسائل التواصل أصبحت قوة أخرى في العالم، وأن أغلب المؤثرين ممن نقلوا حقائق الحرب في غزة لم تكن لهم علاقة من قبل بالسياسة، بل كانوا يهتمون بالحديث في الفن والموضة، وتمكنوا من التأثير بشكل أكبر وأقوى بعد الحرب، برغم أنهم لا يملكون إمكانات وأدوات المؤسسات الإعلامية الكبرى مثل “سي.أن.أن” و”بي.بي.سي” وغيرهما، متسائلا “ألا يعد هذا ضوءا في نفق الحقيقة.”
الكثير من المؤسسات الإعلامية قررت أن تتخلى عن مهنيتها، واختارت الانحياز لمصالح الاحتلال الإسرائيلي
ويقول طارق سعيد لـ”العرب” إنه لا يلوم الأشخاص العاديين على السوشيال ميديا في ما يتعلق بالاتهامات التي تلاحقهم أحيانا ببث خطاب الكراهية، إذ إنهم لم يدرسوا قواعد الصحافة وليست لديهم سياسات إعلامية أو معرفة بآداب المهنة وأصولها، وتوجه باللوم إلى وسائل الإعلام التقليدية التي تمتلك صفحات على وسائل التواصل، ومع ذلك لا تتعامل بمهنية واحترافية إنما تنحاز إلى السردية الإسرائيلية، بينما انحاز الناس العاديون إلى الحقيقة ولعبوا الدور الأكبر في نقل الرواية المساندة لغزة، فأحدثوا بذلك توازنا مع تلك القوى الإعلامية الأخرى.
ويضيف أن الرهان، كان وسيظل، على ضمائر الناس التي لا يستطيع أي إعلام مهما تكن قوته إسكات صوتهم، لذا فإن السوشيال ميديا هي من لعب الدور الأكبر في إظهار الحقيقة في غزة وفضحت مجازر الاحتلال الإسرائيلي، وهي تستحق أن نحييها ونرفع لها القبعة لا أن نشير إلى سلبياتها التي تعد قليلة جدا بالمقارنة بسلبيات وسائل الإعلام الكبرى.
ويعتبر منسق منتدى المحررين المصريين في تصريحه لـ”العرب” أن الناشطين كانوا أكثر عبقرية من خوارزميات فيسبوك التي حاولت تضييق الخناق وفرضت عقوبات على الحسابات التي تناصر غزة أو تفضح المجازر، فاستخدموا كلمات بديلة لا يفهمها فيسبوك بتقطيع الكلمة أو استخدام حرف إنجليزي وسط الكلمة العربية، للابتعاد عن استخدام الكلمات المفتاحية التي تلاحقها الخوارزميات كمخبري الشرطة.
ويرى سعيد أن قصص الحرب في الإعلام، يجب أن تكون عن الإنسان وليس السلاح، وعن مظاهر الحياة التي قضت عليها الحرب، ليس عن التقدم العسكري، عن معاناة الناس لا الاجتياح، بهدف أنسنة ضحايا الحرب وليس أن يجعلهم الإعلام مجرد أرقام تظهر ثم تختفي.
المواطن الصحافي نجح في تغيير المعادلة لأنه نجح في تسييد سردية بعينها، في ظل تحيز وسائل الإعلام
والمواطن الصحافي إذًا نجح في تغيير المعادلة لأنه نجح في تسييد سردية بعينها، في ظل تحيز وسائل الإعلام، كما يقول سمير عمر مدير مكتب “سكاي نيوز عربية” في القاهرة، داعيا المؤسسات الإعلامية إلى إجادة استخدام المنصات التي تملكها على وسائل التواصل في ظل ثبوت أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه.
وأشرف على إعداد برنامج المناقشات في النسخة السادسة من مؤتمر القاهرة للإعلام فريق ضم كلا من نهى المكاوي عميد كلية الشؤون العالمية والسياسات العامة بالجامعة الأميركية في القاهرة، ونائلة حمدي العميد المساعد للدراسات العليا والبحوث، ورشا علام رئيس قسم الصحافة والإعلام بالجامعة، ولمياء راضي المستشارة والمدربة الإعلامية الدولية، وأحمد منتصر مدير تطوير منتجات الإعلام، بحضور أرني جينسن المستشار الأول لجمعية المحررين النرويجيين، وسيلجي فورسوند رئيسة قسم التحقق بمنظمة التحقق من الحقائق النرويجية، وكريستين سكاري أورجيريت أستاذة الصحافة والدراسات الإعلامية بجامعة أوسلو ميتروبوليتان “أوسلو ميت”.
وعرض خالد عزالعرب، الأستاذ المشارك بقسم الصحافة والإعلام بالجامعة الأميركية، صورا ومقاطع فيديو لمتظاهرين خرجوا دعما لغزة، لكن تم استخدام الذكاء الاصطناعي في وسائل الإعلام الغربية لتغيير الأعلام في أيديهم والهتافات التي يطلقونها لتبدو المظاهرة كأنها تدعم إسرائيل، وهو ما تم فضحه، لكن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي تتطور بسرعة، وما يسهل اكتشاف تزييفه اليوم سوف يكون صعبا بعد أشهر.
وتبقى هناك آثار إيجابية أيضا للذكاء الاصطناعي في التغطية الإعلامية، منها تخفيض بعض الأعباء على الصحافيين ليتفرغوا للقصص الأهم، وتسهيل البحث في البيانات وتخفيف النفقات في المؤسسات الصحفية.
وقال أحمد منتصر، مدير تطوير منتجات الإعلام، المشارك في تنظيم مؤتمر القاهرة للإعلام، لـ”العرب” إن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإعلام أمر مرعب لأنه قادر على قلب الحقائق وتزييفها دون أن يلاحظ المتلقي العادي أن ما يشاهده بعينه ليس حقيقيا، لذا فإن المؤتمر هدف إلى جمع ما توصل إليه من نتائج لدراستها، في ما يتعلق بحماية حياة الصحافيين وتوسيع هامش الحرية.
وأضاف أنه سيتم بحث الخطوات المقبلة المطلوبة لتحقيق التطور التكنولوجي واستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي داخل غرف الأخبار بشكل إيجابي بالطبع، والتواصل لأجل ذلك مع نقابة الصحافيين المصريين والمؤسسات الإعلامية والصحف، لتنظيم ورش عمل وتدريبات يمكن أن تكون على أيدي المدربين الأجانب، مباشرة أو عبر الإنترنت، وفقا لما تسمح به الظروف، بهدف تحقيق حلم تحويل المناقشات النظرية إلى واقع عملي يفيد الصحافيين والحقيقة، في عالم صار محاطا بالأكاذيب.