تقدّم الولايات المتحدة منذ أكثر من عام دعما ثابتا لإسرائيل في حربها مع حركة حماس في قطاع غزة، مع الضغط عليها لممارسة شيء من ضبط النفس، لكن هذا الهامش الضئيل سيزول مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ولو أن رغبته العارمة في إنجاز تسويات قد تدفعه إلى مواقف لا يمكن التكهن بها.
وعكست التعيينات التي بدأ الرئيس الأميركي الجديد يعلن عنها هذا الانحياز، وهو ما صدم المسلمين الذين انتخبوه نكاية في موقف منافسته الديمقراطية الداعم لإسرائيل.
وخلافا لكل الرؤساء الأميركيين السابقين، لم يلتزم ترامب يوما بالعمل على قيام دولة فلسطينية مستقلة، ومواقفه تظهر أنه في صف إسرائيل باستمرار.
وهو على رأس حزب جمهوري مؤيد لإسرائيل إلى حدّ أن بعض مراكزه وزعت خلال الحملة الانتخابية أعلاما إسرائيلية إلى جانب لافتات تأييد لترامب.
ويتباين هذا المشهد مع الوضع لدى الديمقراطيين، إذ واجه جو بايدن انتقادات شديدة من يسار حزبه بسبب دعمه لإسرائيل.
وكان سفيرا بايدن إلى إسرائيل يهوديين ولم يتردّدا في انتقاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أحيانا. أما ترامب فقد اختار شخصيات معروفة بولائها لإسرائيل.
ويقول مدير معهد “ميسغاف” الإسرائيلي للدراسات آشر فريدمان “إنهم مؤيدون لإسرائيل أكثر من معظم الإسرائيليين“.
ويتوقع أن يعتمد ترامب نهج “أميركا أولا” القائم على الحد من استخدام الموارد العسكرية الأميركية وتركيز سياسته على التصدي للصين، ما يعني في آن إمداد إسرائيل بالوسائل لمقاتلة أعدائها والتشجيع على تطبيع علاقاتها مع الدول العربية وفي طليعتها السعودية.
ويقول فريدمان “هناك فعلا احتمال كبير بتغيير النهج في عدد من المجالات مثل تطوير التعاون الإقليمي وممارسة ضغوط قصوى على إيران“.
وزار بايدن تل أبيب في أكتوبر 2023 بعد أيام على شن حماس هجومها غير المسبوق على الدولة العبرية مطلقة شرارة الحرب، فعانق نتنياهو وأعرب عن اعتزازه بدعم إسرائيل.
لكن بعد ذلك، وجّه بايدن مرارا انتقادات لنتنياهو بسبب حصيلة الحرب الفادحة بالأرواح، وسعى عبثا لردع إسرائيل عن فتح جبهة ثانية مع حزب الله في لبنان.
وأمهل وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان أنتوني بلينكن ولويد أوستن إسرائيل في رسالة في منتصف أكتوبر، شهرا للسماح بإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى سكان قطاع غزة، تحت طائلة تعليق جزء من المساعدات العسكرية الأميركية لها.
غير أن الإدارة الأميركية قررت في نهاية المطاف عدم تنفيذ وعيدها على الرغم من عدم التزام الدولة العبرية بسلسلة من المعايير التي طلبتها منها، لاسيما السماح بدخول 350 شاحنة على الأقل يوميا إلى غزة.
ولم يؤثر تقرير جديد مدعوم من الأمم المتحدة حذّر من خطر مجاعة وشيكة في قطاع غزة، على الموقف الأميركي.
وقال بلينكن لصحافيين الأربعاء إن هذا التهديد جعل إسرائيل تشعر بـ”حاجة ملحة” للتحرك، مشيرا إلى أنها لبّت 12 من المطالب الأميركية الـ15.
وترى أليسون ماكمانوس من مركز التقدّم الأميركي أن الرسالة أعطت إدارة بايدن فرصة لتشديد سياستها، لكن الرئيس أراد أن يكون إرث ولايته “دعما شبه مطلق” لإسرائيل.
وبالرغم من موقفه بشأن قيام دولة فلسطينية، يتباهى ترامب بالسعي لعقد اتفاقات تاريخية.
وتتحدّث ماكمانوس “عن عالم قد يشهد تعنّت نتنياهو، كما فعل خلال مفاوضات وقف إطلاق النار، وبالتالي لن أُفاجأ حينها إن رأينا ترامب يمارس فعليا بعض الضغوط“.
ويلفت المستشار السابق في وزارة الخارجية آرون ديفيد ميلر إلى أن ولاية ترامب الأولى أظهرت أنه يعتمد سياسة خارجية “انتهازية تقوم على الصفقات ومعالجة الملفات بشكل منفرد“.
لكنه يرى أن ترامب سيصطدم بالعقبات ذاتها التي واجهها بايدن إن حاول التوصل إلى اتفاق حول غزة، وفي طليعتها خطر استمرار حركة حماس وعدم وجود منظومة أمنية جديدة في المنطقة حتى الآن.
ويقول ميلر الباحث في معهد كارنيغي للسلام الدولي إن ترامب “لا يمكنه وقف الحرب في غزة ولن يضغط على نتنياهو من أجل ذلك“.
ويعتبر إيلي بيبرز من منتدى الدفاع والأمن الإسرائيلي أن ترامب سيسعى لتخفيف التوتر مع نتنياهو، بعدما أقام بايدن علاقات صعبة مع إسرائيل.
ويقول “ترامب يحب أن ينظر إلى الأمور بالمقارنة مع خصومه،” مشيرا إلى أنه يريد أن “يجعل العلاقات الأميركية الإسرائيلية عظيمة من جديد” تماشيا مع شعاره لأميركا.
وأخلف ترامب بهذا التوجه وعودا كان أطلقها لناخبين مسلمين لحثّهم على دعمه.
وقال زعماء المسلمين الأميركيين الذين دعموا دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة إنهم يشعرون بخيبة أمل كبيرة بسبب اختيارات ترامب للمناصب الوزارية بعد أن أيدوه احتجاجا على دعم إدارة الرئيس جو بايدن لإسرائيل في حربها على قطاع غزة وهجماتها على لبنان.
وقال المستثمر رابيول تشودري من فيلادلفيا “فاز ترامب بفضلنا، ولسنا سعداء باختياراته لمنصب وزير الخارجية وغيره (من المناصب).”
وترأس تشودري حملة “تخلوا عن هاريس” في بنسلفانيا وشارك في تأسيس منظمة “مسلمون من أجل ترامب”.
ويعتقد محللون إستراتيجيون أن دعم المسلمين لترامب أسهم في فوزه بولاية ميشيغان وربما كان من عوامل فوزه بولايات متأرجحة أخرى.
واختار ترامب السناتور الجمهوري ماركو روبيو، المؤيد القوي لإسرائيل، لمنصب وزير الخارجية.
وقال روبيو في وقت سابق من هذا العام إنه لن يدعو إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإنه يعتقد أن إسرائيل يجب أن تقضي على “كل عنصر” من عناصر حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس). وأضاف “هؤلاء الناس حيوانات شرسة”.
كما رشح ترامب مايك هاكابي حاكم أركنسو السابق ليكون السفير الأميركي القادم لدى إسرائيل. وهاكابي من المحافظين المؤيدين بشدة لإسرائيل ولاحتلال إسرائيل للضفة الغربية، ووصف حل الدولتين في فلسطين بأنه “غير قابل للتنفيذ”.
واختار ترامب النائبة الجمهورية إليس ستيفانيك، التي وصفت الأمم المتحدة بأنها “مستنقع لمعاداة السامية” بسبب تنديد المنظمة بسقوط قتلى في غزة، لتكون سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة.
وقال ريكسينالدو نازاركو، المدير التنفيذي لشبكة إشراك المسلمين الأميركيين وتمكينهم “آمين”، إن الناخبين المسلمين كانوا يأملون في أن يختار ترامب مسؤولين في الحكومة ممن يعملون من أجل السلام، إلا أنه لا توجد أيّ مؤشرات على ذلك.
وأضاف “نشعر بخيبة أمل كبيرة.. يبدو أن هذه الإدارة ممتلئة بالكامل بالمحافظين الجدد والأشخاص المؤيدين بشدة لإسرائيل والمؤيدين للحرب، وهو ما يمثل خذلانا من جانب الرئيس ترامب لحركة مؤيدي السلام ومناهضي الحرب”.
وذكر نازاركو أن الجالية ستواصل الضغط لجعل صوتها مسموعا بعد حشد الأصوات لمساعدة ترامب على الفوز. وتابع “على الأقل نحن على الخريطة”.
وقال حسن عبدالسلام، الأستاذ السابق في جامعة مينيسوتا والمؤسس المشارك لحملة “تخلوا عن هاريس” إن خطط ترامب بشأن إدارته ليست مفاجئة، لكن تبين أنها أكثر تطرفا مما كان يخشاه. وكانت حملة “تخلوا عن هاريس” أيدت مرشحة حزب الخضر جيل شتاين.
وأضاف “يتبع فيما يبدو نهجا بالغ التأييد للصهيونية.. كنا دائما متشككين للغاية.. بوضوح، ما زلنا ننتظر لرؤية إلى أين ستتوجه الإدارة، لكن يبدو أن مجتمعنا تعرض للخداع”.
وقال العديد من المؤيدين المسلمين والعرب لترامب إنهم يأملون أن يضطلع ريتشارد جرينيل، القائم بأعمال مدير المخابرات الوطنية السابق خلال رئاسة ترامب الأولى، بدور رئيسي بعد أن أمضى شهورا في التواصل مع جاليات المسلمين والأميركيين من أصل عربي، حتى أنه تم تقديمه على أنه وزير خارجية محتمل في الفعاليات.
وتمكن ترامب من حشد بعض التأييد من المسلمين في المنطقة، بما في ذلك اثنين من رؤساء البلديات الديمقراطيين الذين يمثلون المدن ذات الأغلبية المسلمة خارج ديترويت.
ووعد ترامب بوضع “حد للحروب التي لا تنتهي.” ويشير في هذا الإطار إلى اتفاقيات أبراهام التي وقعتها إسرائيل مع العديد من الدول العربية خلال فترة رئاسته.
دعم المسلمين لترامب أسهم في فوزه بولاية ميشيغان وربما بولايات متأرجحة أخرى، لكنه فضل التزامه تجاه الإسرائيليين
كما اجتمع اللبناني مسعد بولس، الحليف الرئيسي الآخر لترامب ووالد زوج ابنته تيفاني، أكثر من مرة مع زعماء أميركيين من أصل عربي ومسلمين.
ووعد كلاهما الناخبين الأميركيين من أصل عربي والمسلمين بأن ترامب مرشح للسلام وأنه سيعمل بسرعة على إنهاء الحروب في الشرق الأوسط وخارجه. ولم يتسن بعد التواصل مع أيّ منهما.
وقام ترامب بعدة زيارات إلى مدن توجد بها أعداد كبيرة من السكان الأميركيين من أصل عربي ومن المسلمين، بما في ذلك زيارة ديربورن، وهي مدينة ذات أغلبية عربية، حيث قال إنه يحب المسلمين، وكذلك زار بيتسبرج حيث وصف منظمة “مسلمون من أجل ترامب” بأنها “حركة جميلة. وإنهم يريدون السلام. إنهم يريدون الاستقرار”.
وتجاهلت رولا مكي الأميركية من أصل لبناني ونائبة رئيس لجنة العلاقات العامة للحزب الجمهوري في ولاية ميشيغان هذه الانتقادات.
وقالت “لا أعتقد أن الجميع سيكونون سعداء بكل تعيين يقوم به ترامب، لكن النتيجة هي ما يهم.. أعلم أن ترامب يريد السلام، وما يحتاج الناس إلى إدراكه هو أن هناك 50 ألف قتيل فلسطيني وثلاثة آلاف قتيل لبناني، وهذا حدث خلال الإدارة الحالية”.