تركت التغييرات والإصلاحات السريعة في السعودية التيارات المحافظة في صراع مع الأدوار الجنسانية المتغيرة بعد فتح الباب للنساء للحصول على فرص عمل جديدة، لكن يبقى حضورهن خجولا ومتواضعا في الأدوار القيادية والمراكز العليا في القطاع الخاص.
ويستمر دخول النساء السعوديات إلى سوق العمل وتتوسع القوى العاملة بطرق غير مسبوقة. وبحسب وزارة المالية، وصلت مشاركة الإناث في العمل إلى 35 في المئة وهو ما يفوق بكثير هدف رؤية 2030 الأصلي البالغ 30 في المئة ويمثل هذا تحولًا اقتصاديًا مهمًا، ومع ذلك لا تزال بعض العقبات التي يفرضها المجتمع المحافظ تعيق تقدم المرأة في هذا الميدان.
وبين عامي 2017 و2022، قطعت المملكة خطوات كبيرة في تعزيز الحقوق الاقتصادية للمرأة كجزء من رؤية 2030، وعلى وجه الخصوص، لم يضع قرار عام 2017، الذي قضى بالسماح للإناث بقيادة السيارات، النساء السعوديات خلف عجلة القيادة لأول مرة فحسب، بل فتح أيضًا أمامهنّ فرص عمل جديدة. وبالتالي، سمحت لهنّ القدرة على التنقل بالتخلي عن الاعتماد على وليّ أمر ذكر للوصول إلى العمل.
كما شكل قانون مكافحة التحرش لعام 2018 إنجازًا رئيسًا آخر لتمكين المرأة، حيث فرض عقوبات صارمة بما في ذلك غرامات باهظة وأحكام بالسجن على التحرش في مكان العمل. ولم يهدف هذا إلى ردع سوء السلوك فحسب، بل شجع النساء أيضًا على الإبلاغ عن الحوادث، ما أدّى إلى كسر حاجز ضخم أمام مشاركتهن الاقتصادية.
وسرعان ما تبعت ذلك تعديلات على القوانين المدنية وقوانين العمل، بما في ذلك سن التقاعد الموحد والحماية من الفصل أثناء الحمل ما عزز الأمن الوظيفي للنساء. وأدت هذه الإصلاحات إلى زيادة ملحوظة في مشاركة الإناث في كل من القطاعين العام والخاص.
إدماج النساء السعوديات في العمل يتركز إلى حد كبير في مجالي الرعاية والتعليم والقطاعات التي تحظى بالأولوية بالتوطين
لكن لا تزال الجهود الرامية إلى التحديث التي تقودها السلطات تواجه مقاومة من جانب شرائح محافظة من المجتمع السعودي. ففي حين تبنّت المدن الكبرى مثل جدة والرياض هذه التغييرات إلى حد كبير، فإن المناطق الريفية أقل قبولا للانفتاح وخاصة في ما يتصل بعمل النساء في بيئات مختلطة بين الجنسين.
ويتركز إدماج النساء السعوديات في العمل إلى حد كبير في مجالي الرعاية والتعليم والقطاعات التي تحظى بالأولوية بموجب سياسات التوطين وهو ما يقيد مشاركتهن الاقتصادية الأوسع نطاقًا.
وتؤكد العديد من النساء أن أكبر صعوبة تواجهها المرأة السعودية في سوق العمل هي نظرة المجتمع للعاملة في الأماكن المختلطة، خصوصا تلك التي يكون فيها الاختلاط كاملا، وأساسيا لإنجاز العمل. ولمحدودية الوظائف غير المختلطة فإن أمام بعض النساء خيارين، إما مواجهة نظرة المجتمع خصوصا المقرّب منها بالعمل في الأماكن المختلطة، أو الانتظار الطويل لفرصة عمل غير مختلط، التي قد لا تأتي أبدا.
وهذا العائق ينطوي على عدة أسباب مرتبطة به، أولها رفض الأسر عمل الفتاة في تلك الأماكن خوفا من نظرة المجتمع. ومنها رفض الفتاة نفسها للعمل في مثل تلك الأماكن لخوفها من تأثيره على زواجها، فبعض الشباب لا يقبل بالزواج من فتاة تعمل في الأماكن المختلطة.
كما أن الأماكن المختلطة نفسها تعتبر أحيانا معيقا لعمل المرأة، بسبب وجود مضايقات تصل حد التحرش، خصوصا في بعض مؤسسات القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة. وهذا الأمر وإن كانت القوانين صارمة جدا في مواجهته، وقادرة على حماية المرأة بكل قوة، إلا أن الإشكالية تكمن في خوف بعض الفتيات من تقديم شكوى بسبب نظرة المجتمع. وخوفا من أسرهم بعدم السماح لهن بالعمل مرة أخرى، ويفضل معظمهن ترك العمل على تقديم شكوى بحق المضايق، أو المتحرش.
أكبر صعوبة تواجهها المرأة السعودية في سوق العمل هي نظرة المجتمع المحافظ للعاملة في الأماكن المختلطة
وعلى الرغم من التقدم المحرز في السنوات الأخيرة، لا يزال شموله في كافة المحافظات هدفًا بعيد المنال. إذ لا يزال الفصل بين الجنسين يحد من قدرة النساء السعوديات على الوصول إلى الأدوار القيادية في أماكن العمل وفرص التواصل التي يمكن أن تعزز حياتهن المهنية، في حين أن التوقعات المجتمعية غالبًا ما تبقيهن في المنزل.
ورغم أنه من الملاحظ أن القطاعين الحكومي والخاص قد تقدما نحو خلق بيئات عمل أكثر شمولًا؛ إلا أن القيادة في القطاع الخاص تأخرت عن الركب. وقد ركزت الجهود إلى حد كبير على زيادة أعداد القوى العاملة بدلًا من معالجة التفاوتات الأعمق والنظامية التي لا تزال قائمة بالنسبة إلى الإناث في المملكة. ومع تكثيف الرياض للاستثمار في الوظائف الخضراء لتحقيق أهدافها المناخية، هناك خطر متزايد من أن تتفاقم اختلالات التوازن بين الجنسين إذا لم يتم إشراك النساء في هذه المجالات الناشئة.
كما أن سياسات التوطين في المملكة كانت توجه النساء في الكثير من الأحيان نحو المناصب ذات الأجور المنخفضة في حين تركت القطاع العام الأعلى أجرًا والذي يهيمن عليه الذكور من دون مساس نسبيًا. ولا يزال التمثيل محدودًا في المجالات المربحة مثل الطاقة والخدمات المصرفية والتمويل وكذلك العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات.
وعلى الرغم من أن المبادرات الحكومية مثل “قرة”، التي تقدم الدعم المالي لتكاليف رعاية الأطفال، و”وصول”، وهو برنامج يدعم نفقات النقل، شجعت المزيد من النساء على الانضمام إلى القوى العاملة، إلا أن تركيزهن في قطاعات معينة لا يزال يقيد فرص الترقي الوظيفي في حياتهن المهنية.
بيئة محافظة
وقد نمت فرص القيادة للنساء، حيث شغلت الإناث 49 في المئة من المناصب الإدارية الجديدة في عام 2020، والكثير منهن مواطنات سعوديات. ومع ذلك، تظل هذه المكاسب غير متساوية، حيث لا تزال النساء ممثلات تمثيلاً ناقصًا في الأدوار التنفيذية وصنع القرار.
وإضافة إلى ذلك لا تزال فجوات الأجور قائمة: فالإناث يكسبن في القطاع الخاص 42 في المئة أقل من الذكور، على الرغم من العمل لساعات مماثلة. ويشير الاختلاف إلى تحيزات عميقة الجذور وتحديات أوسع تواجهها النساء عند التفاوض على المساواة في الأجر والوصول إلى مسارات مهنية أكثر تنافسية.
ووفقاً لما أورده “تقرير المرأة وأنشطة الأعمال والقانون” الصادر عن البنك الدولي فإن المرأة السعوديّة تشكل عنصرًا حيويًّا لنجاح رؤية عام 2030 حيث تمّ تنفيذ إصلاحات عدّة من أجل تحفيز المرأة لدخول سوق العمل وحمايتها. وشملت هذه الإصلاحات إدراج حق المرأة المتساوي في اختيار مكان إقامتها. وحظرت التمييز على أساس الجنس في الوظيفة، وفصل النساء الحوامل من العمل، والتمييز على أساس الجنس في الحصول على الائتمان. وطبقت المراسيم الملكية المساواة بين الرجل والمرأة في سن المعاش التقاعدي وألزمت أصحاب الأعمال بمنح المرأة إجازة وضع بأجر كامل وأن تحسب ضمن مدة خدمتها لأغراض التقاعد.
ويسلط التقرير الضوء على نماذج إيجابية لنساء استطعن كسر الحاجز الذكوري، ويؤكد أن الإصلاحات تفيد بالفعل حوالي ستة ملايين امرأة سعودية تجاوز عمرهنّ 21 عامًا وستؤثّر أيضاً على العديد من الأجيال القادمة. وارتفعت نسبة عمالة المرأة في القطاعات التي لطالما سيطر الرجال عليها. ففي عام 2020 وحده، دخلت 7782 امرأة إلى قطاع البناء – بينما كانت عمالة المرأة في هذا القطاع محظورةً في السابق بموجب القانون – وتبوّأت 6662 امرأة مناصب جديدة في قطاع التصنيع.
وذكرت كريمان الغامدي، وهي أمّ في العقد الرابع من عمرها، أنها قرّرت كسر الحواجز والعمل كسائقة (كابتن) توصيل لصالح شركة “كريم”، وهي إحدى شركات النقل.
مواجهة نظرة المجتمع
وقد عملت كريمان في وظائف أخرى، أكثر روتينيّة ومكتبيّة في مجال الموارد البشريّة، لكن عندما سُمح للمرأة السعوديّة بالقيادة، قرّرت كريمان أن تقدم طلبًا لشغل وظيفة سائقة بما أنها كانت تعرف أنها ستنجح في مثل هذه الوظيفة.
وقالت في هذا الصدد “يترافق هذا النوع من العمل مع عدد كبير من الصعوبات. لكن، إذا ما فكرّنا في هذه الصعوبات وحدها، فلن نغادر منزلنا ولن نقوم بعمل أي شيء. فالآخرون يتجاهلونني عندما يرون امرأة تقود سيارة. ويعتبر البعض بما أنّني سائقة توصيل، يُمكنهم إساءة معاملتي. كما أن ساعات العمل الطويلة تُبعدني عن ابنتي. لكن، أسعى كأمّ أن أحقّق أهدافي وأسلّم البضائع في الوقت المُحدّد.”
وأضافت أنّها استفادت الكثير من عملها، فاكتسبت خبرة أكبر كسائقة، وتعلّمت الصبر، والتقت أشخاصًا من خلفيّات مختلفة، وتعلّمت أن العالم ليس بالضرورة مكانًا ودودًا. وتابعت “كنت شخصًا طيبًا، وأنهزم بسهولة، ولا أعرف كيفية التعامل مع الناس. لكن، بفضل هذه الوظيفة الجديدة، اكتسبت القوّة والحزم وتعلّمت كيفيّة مواجهة المواقف الصعبة.”
وترى كريمان أن المرأة السعودية اليوم في موقف تنافسي وقوي جدًا لتبوّؤ المناصب بفضل دعم الحكومة ورؤية عام 2030 التي تمكّنها. مضيفة “أخيرًا حلمي أن أرى المرأة السعودية نموذجًا للعالم ومثلاً يُحتذى، وأن ينظر العالم إليها وأن يقول: هذا ما يجب أن نتوق إليه.”
أما ابتهاج البُخاري، فهي في العقد الثالث من عمرها، قضت مسيرتها المهنيّة في مجال العلوم. وهي عالمة أبحاث تعمل في المختبر المركزي للتصوير والتوصيف في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية. وحائزة على شهادة البكالوريوس في العلوم حيث تخصّصت في علم الأحياء الدقيقة “الميكروبيولوجي” وشهادة ماجستير من جامعة ماكجيل في مونتريال، كندا، في علم الوراثة البشري.
وبعد تخرّجها من الجامعة، عملت ابتهاج كموظفة متخصصة في التقنيات الطبية بأحد المستشفيات الخاصة، ثم عملت كأخصائية أولى بمختبر الأمراض المعدية بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث.
وقالت البخاري “العلوم شغفي. ساعدتني على دراسة المشاكل، وتحليلها، وحلّها! ولأنني لا أحب العمل في وظيفة نمطية حيث الأعمال متكرّرة وروتينيّة، فقد سعيت إلى العمل في وظيفة بحثيّة. وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية هي أفضل مكان للقاء الخبراء والعلماء المهنيّين والتعاون معهم.”
وأوضحت أن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية يتوافر لديها مجموعة من الأساتذة والطلاب والموظّفين ممّن يتّسمون بالتنوّع الثقافي والدولي. وقد مكّنها هذا التجمع، وهو مصدر وحي وإلهام، من تطوير ذاتها وإثبات نفسها كامرأة سعودية في صفوف زملائها ونظرائها. ودعّمتها الجامعة للمنافسة في وظيفتها على مستوى رفيع من خلال إعطائها الفرص لاكتساب المزيد من الأدوات والمهارات للنمو، مثل إرسالها للمشاركة في ورش عمل في المملكة المتحدة، وألمانيا، والولايات المتحدة، حيث التقت خبراء عالميّين وتعلّمت تقنيات التصوير المتطورة.
وعلى مدى أكثر من خمسة أعوام تقوم البخاري بتعليم طلاب المعهد السعودي للعلوم البحثية أحدث التطبيقات الطبية الحيويّة وتدعمهم وتشكل مصدر وحي للجيل المقبل من العلماء السعوديّين، لاسيّما النساء العاملات في مجالٍ غالبًا ما يسيطر عليه الرجال.
ولا يزال السؤال حول مقدار ما يجب على المرأة أن تساهم به ماليًا في الأسرة أو إن كان يجب أن تساهم على الإطلاق، من المحرمات إلى حدّ ما. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال من المتوقع أن تتولى النساء رعاية الأطفال والطهي وهي مسؤوليات لا تُسند بالتساوي إلى الرجال.