عام 1858 نال اليهود في بريطانيا التحرر السياسي وهو ما سمح لهم بالوصول إلى المناصب المدنية العليا في الدولة، وعلى رأسهم عضوية البرلمان.
هذا ما أكدته دراسة الباحث تيسير علي جودة “اليهود الإنجليز الحياة الدينية والاجتماعية”، موضحا أنه منذ حصول اليهود في بريطانيا على التحرر السياسي عام 1858، بدأ الجيل الأول من المهاجرين يحصل على حق المواطنة أو الجلنزة، لكل من ولد على أرض إنجليزية، حتى ولو كان والداه أجانب، ومن هؤلاء تكونت نواة اليهود الإنجليز، الذين تفاخروا بأنفسهم عمّن عرفوا باليهود الأجانب، الذين بقت أعدادهم في زيادة مستمرة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية؛ والذين دخلوا جميعًا ضمن النسيج الطبقي لشرائح المجتمع الإنجليزي؛ فدخلت قلة من العائلات اليهودية، التي تعد على أصابع اليد الواحدة ضمن الطبقة العليا الإنجليزية؛ نتيجة لعمليات التزاوج اليهودية من النبلاء، وكانت غالبية المصرفيين والتجار اليهود ضمن الطبقة الوسطى العليا الإنجليزية، وأما غالبية اليهود فكانوا ضمن الطبقة الوسطى والطبقة العاملة الإنجليزية.
الاندماج التدريجي
يسرد جودة في كتابه، الصادر عن دار العربي، أنه مع التحرر اليهودي الذي اكتمل في كل مناحي الحياة عام 1890، تم بناء المعابد بشكل علني في جميع أنحاء بريطانيا، معمارية وكلاسيكية، ورومانية، وإيطالية أو فيكتورية.. إلخ، وأصبح وجود مقاعد بالبرلمان الإنجليزي لليهود أمرا معتادا، وهو ما دفع العديد منهم للانتقال إلى مناطق أكثر ازدهارا في شرق لندن، وزاد توزعهم وانتشارهم مع زيادة الوفود اليهودية الجديدة؛ فقد تسببت المذابح الجماعية وقوانين مايو- التي أباحت دم اليهود وترحيلهم – في روسيا في فرار العديد من اليهود من أوروبا الشرقية وهولندا؛ إذ توجه 1.9 مليون (80 في المئة) إلى الولايات المتحدة، و140000 (7 في المئة) إلى بريطانيا، ودخل هؤلاء اليهود الأشكناز إنجلترا عبر لندن وهال، وجريمسبي ونيوكاسل، حتى تضخمت الموانئ الشمالية باليهود العابرين والمؤقتين المتجهين إلى نيويورك، وبوينس آيرس، وكيب، ولندن ومدن بريطانية أخرى.
وأشار إلى أن عدد السكان اليهود زاد من 46000 عام 1880 إلى 250000 عام 1919؛ نتيجة لعمليات الهجرة المتتالية، وهو ما دفع المصرفي والتر روتشيلد لوضع شروط لتصريح بلفور عام 1917، لإنشاء وطن في فلسطين لليهود في دولة صهيونية جديدة، والتخلص من غوغاء اليهود والفقراء منهم في بريطانيا، ولاسيما ممن ازدحمت بهم المدن الصناعية الكبيرة في لندن ومانشستر، وليدز، وسبيتالفيلدز، ووايت تشابل، وسالفورد، حتى عرف الطرف الشرقي بالحي اليهودي، واستطاع معظمهم الاندماج في المجتمع الإنجليزي، وأسسوا الصحف اليديشية والعبرية، وحركات الشباب مثل لواء الفتيان اليهود، ورابطة الإخوان البريطانيين، وهو الأمر الذي دفع الحكومة البريطانية لتقييد الهجرة بموجب قانون تقييد الأجانب لعام 1905، وقاموا بتعديله عام 1919.
أثناء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918)؛ حاول قادة اليهود إثبات ولائهم للحكومة الإنجليزية؛ فقدموا فيلقا من 50000 يهودي في القوات المسلحة البريطانية، مات حوالي 10000 في ساحة المعركة، في حين قاتل الفيلق اليهودي كأول فوج بريطاني يهودي بالكامل في فلسطين، وكانت إحدى النتائج المهمة للحرب والغزو البريطاني، وتصريح بلفور؛ هي الانتداب البريطاني على فلسطين، بعدما عقد اتفاق بين الحكومة البريطانية والاتحاد الصهيوني لبريطانيا وأيرلندا للسعي لإقامة وطن لليهود في فلسطين.
حلل جودة الطقوس الدينية لليهود داخل المجتمع الإنجليزي بدءا من عمليات الطهارة، التي استوجبت القيام بها بعد كل نجاسة طقسية أو مخالفة دينية، وأوضح كيف كان يصلي اليهود في المعابد ولاسيما يوم السبت المقدس، ولفت إلى أهم الترانيم التي يلقونها على الموائد، والكيفية التي صام بها اليهود؛ إذ يرتبط الصوم عندهم بالذاكرة واستحضار الماضي، لكونه تجسيدا للعلاقة بين الذات والآخر وأدوناي.
وللصوم اليهودي طقوسه التي لم تتغير باختلاف الزمان والمكان، كما له أنواع عديدة منها صيام الجماعة؛ وهو ما جاء به موسى عليه السلام، والفرد وهو ما فرضه الحاخامات فيما بعد، والصيام القصير والطويل، والبسيط والشديد، ويمنع الصيام على المرضى والنساء ولاسيما الحوامل والمرضعات والأطفال، وظهرت طبيعة الحج اليهودي؛ الذي فرض على البالغين المعافين، فيحجون للعديد من الأماكن والمزارات ثلاث مرات في العام مرتبطة بأعياد ثلاثة، ومنها الحج للقدس حيث حائط البراق أو المبكى باعتباره الأكثر قداسة، ويكون البكاء والنواح طقسهم، ويليه في الأهمية الحج لمعبد الغريبة في جربة بتونس.
وتطرق للموسيقى الجنائزية اليهودية؛ والتي يدور تاريخها حول موسيقى الكنتور والمعبد اليهودي، وموسيقى الهيكل من العصور التوراتية إلى العصر الحديث، وبيّن مدى تأثر اليهود في بريطانيا بالموسيقى الألمانية، واستخدامها في معابدهم، كما أشار إلى عادات اليهود المرتبطة بالموت والدفن، والكيفية التي يقيمون بها العزاء والحداد على المتوفى.
وتوقف جودة عند حركة الإصلاح الديني، التي قام بها اليهود من عام 1840 إلى 1940، والتي عرفت رسميًا بمعابد الإصلاح في بريطانيا، وهي واحدة من اثنتين من الطوائف التابعة للإتحاد العالمي لليهودية التقدمية في بريطانيا، وكانت ثاني أكبر مجموعة دينية يهودية في بريطانيا، وكشف أهم المعابد اليهودية في بريطانيا، والهندسة المعمارية المتبعة في بنائها، وتطرق للكنيس المتحد؛ الذي تأسس عام1870، وشكل اتحادا للمعابد الأرثوذكسية البريطانية، وضم الكنيس الكبير وكنيس هامبرو، والكنيس اليهودي الجديد، بالإضافة إلى معبدين يهوديين فرعيين في الطرف الشرقي وشارع بايزواتر اللذين انضما في 1902، والذي كوّنه الحاخام الأكبر ناثان ماركوس أدلر، وعرج على اتحاد المعابد العبرية الأرثوذكسية 1926؛ وهو مظلة جامعة للطوائف اليهودية الحريدية (الأرثوذكسية المتطرفة)، أسسه الحاخام فيكتور شونفيلد عام 1926، والذي جمع ما يقرب من 90 كنيسًا يهوديًا، بالإضافة إلى عدد من المؤسسات التعليمية التي احتفظت باستقلالها.
اقتحام عالم الأدب
كاتبات رسمن قصص الحب بين اليهود لمحو القصص المسيحية عن هروب الفتيات من بيوت عائلاتهن المستبدة ماديا
يخصص جودة فصلا كاملا للمرأة اليهودية حيث توقف عند مجالات عملها وتأسيسها الاتحاد الديني اليهودي، واتحاد النساء اليهوديات، ودورها في نشر الصهيونية، وصداقتها مع المرأة المسيحية، وكذا حضورها ككاتبة ومثقفة وأديبة في الحقل الأدبي البريطاني. يقول إن اليهوديات ناضلن لإثبات أنفسهن بكفاح في التاريخ الأدبي لبريطانيا في القرن التاسع عشر، وقمن بذلك منفردات وفي جماعات، حتى دخلن في صراعات مع الذكور، وحاولن بهذا النضال الحصول على لقب كاتبة، وإضفاء الشرعية على كتابتهن، وخلال ذلك واجهت النساء الطموحات العديد من التحديات لتحقيق أهدافهن، وبذلن قصارى جهدهن لإنتاج عمل ثقافي يستحق التقدير.
وقد عملت بعض اليهوديات كاتبات ومعلمات، وأثّرن في المجتمع الأدبي وأنشأن مجموعة من المؤسسات النسائية لتوسيع أدوارهن؛ فقامت جريس أجيلار وشارلوت مونتفيوري بالمراسلة ونشرتا القصة الافتتاحية في مكتبة مونتيفيوري “اليهودية الرخيصة”، كانت أجيلار مصدر إلهام لإنشاء هارتوج مجلة السبت اليهودية، وهي أول دورية نسائية يهودية في العالم في العصر الحديث، وأسست مدرسة للأطفال الصغار، مكررة دور “المربية الأخلاقية للعائلة العبرية”.
وأقرت اليهودية الإنجليزية ريبيكا جراتز، مؤسسة حركة مدرسة الأحد العبرية في الولايات المتحدة، بتأثير أجيلار، عندما أوضحت اختيارها عدم الزواج للقيام بمهام مجتمعية، وألهمت أعمال أجيلار نيللي إسحاق كوهين عام 1871، لتقديم الأموال لجائزة بين تلاميذ المدارس اليهود، لأفضل مقال عن نساء التوراة في إسرائيل، وتقول بيل هوكس مؤسسة “حركة نسائية”؛ “لم تبدأ حركة النساء اليهوديات على هذا النحو في إنجلترا وأميركا إلا بعد عام 1880.” هكذا فإذا لم تكن كتابات أجيلار وغيرها مصدر إلهام لحركة كبرى؛ فقد أثرت على تصور الذات لليهوديات في القرن التاسع عشر.
اليهوديات ناضلن لإثبات أنفسهن بكفاح في التاريخ الأدبي لبريطانيا القرن التاسع عشر وقمن بذلك منفردات وفي جماعات
ويوضح جودة أن اليهوديات لم تنشغلن كثيرا بالأدب في بريطانيا في الفترة من 1858 إلى 1870؛ حينما بدأت اليهوديات يطالبن بحقوقهن، وكانت كتاباتهن من قبل بسيطة، حتى ظهرت فجوة واضحة في “الكتابة” من قبل النساء اللواتي كتبن في بريطانيا، ولعل أشهرهن كانت سارة جراند وإلا دارسي، وإيلاوورث ديكسون.. وغيرهن، وجميعهن يهوديات إنجليزيات، أثّرن في التحول الثقافي البريطاني ولاسيما منذ عام 1880، وكانت أوستن إليوت، التي كانت لها مكانة بارزة في الأدب الإنجليزي، ولاسيما بروايتها “أوجينا” 1890، و”الخيط الرفيع” عام 1895، و”الدور الذكوري” عام 1899، و”المرأة” عام 1903، و”جراءة الأزواج” عام 1907، و”الإناث والذكور” عام 1912، واعتبرت من الأديبات الطموحات، حتى وفاتها عام 1923، فكان لها إسهام عظيم في تحديث المحتوى الاجتماعي بشكل أدبي، وكأنها تتنبأ بالابتكارات الأدبية التالية، والنسائية الجديدة عام 1916.
ويرى جودة أن النساء اليهوديات عملن في الحقل الأدبي ولاسيما في العصر الفيكتوري؛ فكن أول يهوديات في أي مكان في العالم يبدأن في نشر الكتب بطريقة شاملة، ومنهن جريس أجيلار 1859 المتحدثة الأبرز باسم اليهود الإنجليز خلال تلك الفترة، والتي ألفت العديد من الكتب والروايات، التي تحدث معظمها عن أوضاع المرأة اليهودية في بريطانيا والعالم أجمع، وقامت بعقد صفقات مع المسيحيين والرجال اليهود، إذ كان المسيحيون يتسامحون مع اليهود.
واستطاعت أن تحافظ لليهوديات على ممارساتهن المختلفة داخل المجال الفكري، وعبّرت عن ذلك في الروايات الرومانسية والخيال المحلي، حتى كسرت الإعفاءات التي امتدت لقرون على مشاركة المرأة في الحياة الفكرية للمجتمع اليهودي، ومكنتها من إنشاء تقليد روائي يهودي جديد من الصفر، واشتهرت كذلك روزيت ومريم، وأميليا بريستو عام 1927؛ وحاولن جميعا رسم صورة التسامح اليهودي، في محاولة لمحو صورة اليهودي المتمثلة في شايلوك التاجر الجشع، ورسمن قصص الحب بين اليهود، لمحو القصص المسيحية عن هروب الفتيات من بيوت عائلاتهن المستبدة ماديًا، للزواج من شباب مسيحيين أحبوهم في الخفاء، وليتحولوا بعدها إلى المسيحية، كما في رواية والتر سكوت “ريبيكا وويلفريد”، وأظهرن كيف أن من تفعل ذلك لم تعد تتزوج، وتفشل قصتها.
ويبين أن الإنتاج الأدبي النسائي في بريطانيا انقسم إلى فئتين؛ الأولى؛ “الإحساس” الشعبي، المقصود بالترفيه الخفيف؛ واشتهرت فيه اليهودية بيريكا لاورانسوا، التي عرفت بكتاباتها الهادفة، التي تحمل معاني الفرح والمرح والجمال، ومنها روايتها “سيدة خطيرة”، التي اشتهرت في معظم أنحاء العالم، حينما نشرتها عام 1909، وأعادت نشرها عام 1921، مع رواية “الاستكثار”، والثانية الرواية الأخلاقية الخطيرة، المكرسة لاستكشاف المسائل الأخلاقية الناجمة عن العلاقة بين الفرد والمجتمع، وهو الجانب الذي برعت فيه أليوت وجراند ولاسيما بعد روايتها “المؤسسات الثقافية”، والروائية اليهودية أيلا التي كتبت عن الجمال الأخلاقي عام 1914، والمشاكل الأخلاقية والحقائق النفسية عام 1919.
وانضمت إليهن إليزابيث جاكسل عام 1920؛ وكذلك هنري وود، وماري إليزابيث 1923، وبرادون إليك 1928، واشتهرن برواياتهن الشعبية المليودرامية، التي هدفت إلى تسلية الجمهور الأقل تعلمًا، وتبعتهم آن رادكليف 1931؛ التي كتبت “العرض والطلب”، والتي عرفت بأسلوبها المنمق، والآنسة أوستن برواية “هذا هو الوجه الآخر”؛ والتي مدحها الناقد فرانسو جيزورعلى أعمالها، واصفًا إياها بالمعجزة الأدبية التي لن تتكرر عام 1936، وعلى الرغم من صغر حجمهن، إلا أنهن قبلن كأعضائها وكأقران لأعظم الروائيين الذكور، وأدرجت أسماؤهن من بين أفضل الروائيين والكتاب بانتظام في التقاليد الإنجليزية.
ويلفت إلى أن ليزا ستيوارت التي ولدت في لانكشاير لأبوين يهوديين عام 1899، بدأت أولى كتاباتها في عمر 16 سنة عن ويلات الشعب اليهودي، عام 1915، ثم لجأت لكتابة الروايات الرومانسية أو الرواية الميلودرامية منذ عام 1922؛ حينما كتبت روايتها “اللاوعي”، وفيها تحدثت عن الحنين لكل ما هو قديم بشيء من اللاوعي، ورواية “ليبقى المكان”، وتحدثت فيها عن الرومانسية التي جمعت بين العديد من الأحباب، الذين التقوا في مكان ما، ثم رحلوا كل إلى وجهته، ونشرتها عام 1928، وشكلت الآنسة فيرييه، وشارلوت برونتي، وجاسكل، وكثيرات غيرهن من الشخصيات البارزة، مدرسة تشبه سحابة الشعراء الدراميين في العصر الأثيني العظيم، وذاع صيتهم في الفترة من 1927 إلى 1956.
كذلك أبدعت اليهوديات في الأدب الروائي الساخر، واشتهرن فيه أواخر العصر الفيكتوري، وعلى الرغم من حرية الكتابة والتعبير؛ إلا أنهن التزمن بضوابط محددة، حددتها القواعد الأدبية العامة في بريطانيا، وشكلن مجموعة واحدة عام 1910، والتي نشرت شعرا وأدبًا لأحداث المجتمع بشكل ساخر، ولكنه محكوم ومحكم، وصفها الروائي فيلد بأنها “مجموعة فرعية من مجال الإنتاج الثقافي، ذات خلفية اجتماعية غامضة، لكنها كونت بيئة فنية واسعة للعلاقات الشخصية بين الفنانين والكتاب.” حتى حققن من أعمالهن رأس مال ملحوظ، أثبت نجاحهن التجاري؛ وذلك لانجذاب الإنجليز لهذا اللون من الأدب.