قادت صور التقطتها أقمار صناعية أميركية للتجسس في سبعينيات القرن العشرين فريقاً أثرياً بريطانياً وعراقياً إلى ما يعتقدون أنه موقع معركة في القرن السابع الميلادي كانت حاسمة في انتشار الإسلام في جميع أنحاء المنطقة.
معركة القادسية هي واحدة من المعارك الحاسمة في تاريخ الإسلام والعالم الإسلامي، ودارت بين المسلمين العرب وجيش الإمبراطورية الساسانية الفارسية في العام 636م (15هـ)، أي في السنة السابعة عشرة من الهجرة، بالقرب من مدينة القادسية في بلاد ما بين النهرين (العراق حاليًا).
وانتصر الجيش العربي واستمر في مسيرته إلى بلاد فارس، المعروفة اليوم باسم إيران.
وبحسب المصادر التاريخية كانت الإمبراطورية الساسانية تواجه ضغوطًا داخلية بسبب الصراعات السياسية والاقتصادية، مما جعلها ضعيفة أمام الغزوات الإسلامية. كان الفرس قد دخلوا في صراعات مستمرة مع المسلمين على الحدود الشرقية، ووجد الخليفة عمر بن الخطاب أن القضاء على هذا التهديد ضروري لتأمين الدولة الإسلامية.
قادت المعركة قائد جيش المسلمين الصحابي سعد بن أبي وقاص، بينما قاد جيش الفرس رستم فرخزاد، أحد أبرز القادة العسكريين الفارسيين في ذلك الوقت.
تجمعت جيوش المسلمين في منطقة القادسية قرب نهر الفرات، حيث دارت المعركة بعد أن شن الجيش الفارسي هجومًا على المسلمين.
استمرت المعركة لمدة أربعة أيام، حيث استخدم الجيش الفارسي تكتيكات ومعدات متقدمة، بما في ذلك الفيلة الحربية. لكن رغم هذه القوى العسكرية الهائلة، تمكن الجيش الإسلامي من الصمود بفضل الإيمان العميق والمشاركة الفعالة للمجاهدين، وكذلك القيادة الحكيمة من سعد بن أبي وقاص.
أدى انتصار المسلمين في معركة القادسية إلى انهيار الإمبراطورية الساسانية بشكل كبير. بعد المعركة، بدأ المسلمون في فتح المزيد من الأراضي الفارسية، مما مهد الطريق لتأسيس الدولة الإسلامية في بلاد فارس، كما فتح النصر في القادسية الباب أمام المسلمين للتمدد في منطقة بلاد ما بين النهرين، وهو ما أدى في النهاية إلى سقوط السلالة الساسانية.
عثر فريق مشترك من علماء الآثار من جامعة دورهام البريطانية وجامعة القادسية على الموقع أثناء إجراء مسح عن بعد لرسم خريطة لدرب زبيدة، وهو طريق حج من الكوفة في العراق إلى مكة في المملكة العربية السعودية تم بناؤه منذ أكثر من ألف عام، ونُشرت النتائج مؤخرا في مجلة في مجلة أنتيكويتي.
وأثناء رسم خريطة الطريق، لاحظ الفريق أن موقعاً يقع على بعد حوالي 30 كيلومتراً (20 ميلاً) جنوب الكوفة في محافظة النجف جنوب العراق، وهي منطقة صحراوية بها قطع متناثرة من الأراضي الزراعية، كان به سمات تتطابق بشكل وثيق مع وصف موقع معركة القادسية الموصوف في النصوص التاريخية.
قال ويليام ديدمان، المتخصص في الاستشعار عن بعد في جامعة دورهام، إن صور الأقمار الصناعية في عصر الحرب الباردة هي أدوات شائعة الاستخدام من قبل علماء الآثار العاملين في الشرق الأوسط، لأن الصور القديمة غالباً ما تُظهر سمات تم تدميرها أو تغييرها ولن تظهر في صور الأقمار الصناعية الحالية.
وأضاف “لقد تطور الشرق الأوسط كثيراً في السنوات الخمسين الماضية، سواء التوسع الزراعي أو التوسع الحضري”.
وقال إن بعض السمات المميزة في موقع القادسية، مثل الخندق المميز، كانت أكثر نقاءً ووضوحاً في صور السبعينيات، وأكد مسح على الأرض النتائج وأقنع الفريق بأنهم حددوا الموقع بشكل صحيح.
وقال جعفر الجثري، أستاذ علم الآثار في جامعة القادسية وهو جزء من الفريق الذي قاد الاكتشاف، إن السمات الرئيسية شملت خندقا عميقا وقلعتان ومجرى نهر قديم قيل إن جنودا من الفرس قطعوه ذات مرة على ظهر فيلة، كما وجد فريق المسح شظايا فخارية تتزامن مع الفترة التي وقعت فيها المعركة.
وأضاف، إن العراقيين من جيله، الذين نشأوا في ظل حكم صدام حسين، كانوا جميعا مطلعين على أدق تفاصيل المعركة، وصولا إلى أسماء القادة من كلا الجانبين.
وحملت المعركة حينها دلالات سياسية، حيث كان العراق منخرطا في حرب مدمرة مع إيران خلال معظم الثمانينات. وأشار صدام إلى معركة القادسية باعتبارها بشارة انتصار العراق.
وقال الجثري، إنه شاهد فيلما شهيرا عن المعركة عدة مرات مثل الأطفال الذين نشأوا في تلك الحقبة، حيث كان يُعرض على التلفزيون بانتظام.
منذ فترة حكم الرئيس العراقي صدام حسين، كان الرمز السياسي لمعركة القادسية يُستَخدم بشكل كبير لتعزيز الهوية الوطنية العراقية وعلاقته بالوطنية العربية. وقد حرص صدام على تصوير المعركة على أنها معركة مصيرية لا تقتصر على تاريخ قديم، بل تتجسد في العصر الحديث عبر دفاع العراق عن نفسه ضد إيران، خاصة خلال حرب العراق مع إيران (1980-1988)، والتي كانت تُسمى في الإعلام العراقي بـ”حرب القادسية الثانية”.
وتختلف وجهات نظر العراقيين حول المعركة تبعا لمشاعرهم تجاه إيران التي وسعت نفوذها في البلاد منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لبلادهم في 2003 والذي أطاح بصدام.
وأشار الجثري، إلى “بعض السياق السياسي والديني في هذه المعركة، حيث توجد الآن بالطبع اختلافات دينية وعرقية وسياسية في العراق ونقرأ أو ننظر إلى كل شيء بناء على… الاختلافات”. وتابع “نتفق جميعا على أنها معركة مهمة للغاية، وحاسمة، وكلنا يعرف ذلك”.
وقال إن الفريق يخطط لبدء أعمال التنقيب في الموقع في العام المقبل.
ويأتي هذا الاكتشاف كجزء من مشروع أوسع أطلق سنة 2015 لتوثيق المواقع الأثرية المهددة بالضياع في المنطقة.
ويتزامن أيضا مع عودة علم الآثار في العراق، وهو بلد يشار إليه غالبا باسم “مهد الحضارة”. وتوقف الاستكشاف الأثري بسبب عقود من الصراع الذي أوقف الحفر وسهّل نهب عشرات الآلاف من القطع الأثرية.
وعادت الحفريات في السنوات الأخيرة، وأعيدت آلاف القطع المسروقة إلى الوطن.