مع حلول ساعات المساء يوميا تسارع الفلسطينية أفنان أبووردة من مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة إلى نقل أطفالها الثلاثة إلى غرفة صغيرة داخل منزلها ليختبئوا فيها خلال الليل لعلها تحميهم من هجمات إسرائيلية قريبة منهم.
وتقول أفنان (35 عاما) “طوال فترة الحرب، اعتدت أن أستخدم هذه الغرفة كي أخزن بها المواد الغذائية التي نحصل عليها والأدوات التي لا نستخدمها كثيرا… لكن مؤخرا، ومع بدء الهجوم الإسرائيلي على المخيم، أفرغتها وجعلتها غرفة لأنام فيها أنا وأطفالي.”
وتضيف السيدة التي قتل زوجها في غارة إسرائيلية سابقة على المخيم، وتعيش في منطقة الفالوجة “إن أصوات القصف تفزع أبنائي في الليل، وكثيرا ما أتنقل بهم من غرفة لأخرى هربا من تطاير شظايا جراء أي قصف قريب، أو إطلاق نار كثيف من الآليات العسكرية التي لا تفرق بين مدني ومسلح.”
ومنذ السادس من أكتوبر الماضي يشن الجيش الإسرائيلي عمليات عسكرية ضد مخيم جباليا للاجئين، ويفرض طوقا بالدبابات على مداخله وعلى البلدات القريبة منه، فيما قال إنها عملية بعد معلومات استخباراتية تفيد بأن حركة حماس تعيد ترميم صفوفها. وكثيرا ما نفت الحركة الإسلامية التي تحكم قطاع غزة استخدام المواقع المدنية كمقرات لها.
وطالب الجيش الإسرائيلي سكان قطاع غزة بضرورة إخلاء منازلهم بشكل فوري لتجنب تعريض أنفسهم للخطر أو استهداف منازلهم. ومنذ ذلك الوقت يطوق الجيش المخيم ويحكم سيطرته عليه ويستهدف أي فلسطيني يتحرك في الشوارع، على حد قول أفنان.
وبنبرة حزينة تشرح أفنان الوضع في جباليا “نحن محاصرون، أطفالي جائعون، الطعام شحيح، لا نستطيع الخروج لأننا سنصبح صيدا سهلا للطائرات المسيرة، لا ماء، لا كهرباء، لا يوجد شيء في المخيم سوى موت يتنقل من منزل إلى أخر، حاصدا أرواح أطفال ونساء وشيوخ وشباب وأجنة في رحم أمهاتهم.”
ومع ذلك ترفض أفنان الخروج من مخيم جباليا والنزوح إلى المناطق الجنوبية إلى قطاع غزة قائلة “للأسف، منذ بدء الحرب تركنا وحدنا نواجه الموت طوال الوقت… لقد نزحت عدة مرات لأنقذ أطفالي من الموت، ولكنني خسرت زوجي في قصف إسرائيلي… النزوح لم يحمنا من الموت.”
وتتابع “هذا بيتي، وبيت أطفالي، وبيت زوجي الذي قتل بدم بارد، لن أغادره، حتى لو سارت الدبابات الإسرائيلية على جسدي لأن الموت يلاحقنا في كل مكان سواء كان في شمال غزة أو في جنوبه، فلا يوجد أي مكان آمن.”
وعلى بعد أمتار قليلة من منزل أفنان، يقطن الفلسطيني حسن نبهان مع زوجته وأطفاله الخمسة في بقايا منزلهم الذي تم استهدافه مسبقا وأدى ذلك إلى مقتل ابنه الأكبر إسماعيل، ويحاول بين الفينة والأخرى أن يطمئن مع زوجته على أفنان وأطفالها.
ويقول الرجل الأربعيني الذي اكتسح الشيب رأسه إنه كان يمتلك منزلا مكونا من ثلاثة طوابق، لكنه اليوم يعيش في غرفة واحدة هي الوحيدة التي نجت من غارة عنيفة دمرت في لحظات بيته الذي أمضى سنوات في بنائه.
ويضيف نبهان بشيء من الحسرة “جربت النزوح والهروب في السابق، ولكن ماذا حصل؟ لقد شعرنا بالإهانة وفقدان كرامتنا بسبب اكتظاظ النازحين وعدم توفر أي شىء… لا طعام ولا ماء ولا دواء… لذلك قررنا البقاء في منازلنا لنستقبل الموت المشرف بدلا من الموت بعيدا عن مسقط رأسنا.”
وكانت صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية قد قالت في تقرير لها بأن عملية الجيش الإسرائيلي الحالية هي عبارة عن تنفيذ نسخة مصغرة وأولية من مبادرة اللواء (المتقاعد) جغيورا آيلاند، الذي اقترح نقل ما يقرب من 400 ألف من سكان غزة المتبقين في شمال القطاع، وخاصة بمدينة غزة، إلى جنوب القطاع من خلال التفتيش والفحص في ممر نتساريم وسط القطاع.
وكان آيلاند أعلن مطلع شهر سبتمبر الماضي ما أسماه “خطة الجنرالات” لإخلاء شمال قطاع غزة من السكان. ويشدد نبهان “نحن لن نخرج من مناطقنا، لن أكرر هذا الخطأ مرة أخرى، أفضل الموت هنا في منطقتي على الهروب والنزوح، فلا يوجد أي مكان آمن.”
ووفقا لأرقام وبيانات الأمم المتحدة، مازال هناك 400 ألف فلسطيني في منطقة شمال غزة محاصرون ويعانون من ظروف معيشية صعبة. ومع اشتداد القصف الذي لا يتوقف تقريبا في منطقة جباليا، يستيقظ صبحي نصر فلسطيني من جباليا مع أطفاله الأربعة وزوجته مفزوعين من نومهم الذي لم يستغرق سوى بضع دقائق.
ويقول نصر، الذي ارتسمت هالات سوداء تحت عينيه، “مع اقتراب ساعات الليل يصبح القصف أعنف وأشد، هي سياسة إسرائيل لتخوفينا وإجبارنا على الخروج من مناطقنا، لكننا لن نتزحزح من هنا.”
ويضيف وهو يطعم طفله الأصغر إبراهيم (4 سنوات) قطعة من الخبز “ما تبقى من طعام في معظم بيوت المخيم لا يتعدى بعض المعلبات التي تكفي لأيام معدودة، إسرائيل تحاربنا بالجوع ونحن نتحدى ذلك بالإرادة.”
ويواصل الجيش الإسرائيلي شن حرب واسعة النطاق على قطاع غزة عقب تنفيذ حركة حماس، التي تدير الجيب الساحلي منذ عام 2007 إثر سيطرتها عليه بالقوة بعد مواجهات مسلحة مع السلطة الفلسطينية، هجوما عسكريا مباغتا على البلدات الإسرائيلية المحاذية لقطاع غزة.
وفي هجوم حماس قتل ما يقارب 1200 شخص من بينهم جنود إسرائيليون ومدنيون ونساء وأطفال وكبار سن واختطف المسلحون الفلسطينيون أكثر من 250 آخرين بحسب إحصائيات إسرائيلية.
في المقابل قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 42438 فلسطينيا وأصاب ما يقارب 100 ألف آخرين غالبيتهم من النساء والأطفال، بحسب ما أعلنت عنه وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.