لئن جسّدت الزيارات الميدانية الفجئية التي يقوم بها الرئيس قيس سعيّد إلى عدد من المدن التونسية اهتماما رئاسيا بمشاغل المواطنين في المقام الأول دون وسائط بين السلطة والفئات الشعبية، فإنها حملت في طياتها رسائل عدّة وجب التقاطها، أهمها الدور الموكول للمسؤولين الجهويين في معالجة عدّة ملفات دون انتظار زيارات الرئيس.
وتقول أوساط سياسية إنه بدا واضحا أن الرئيس سعيد يريد من خلال تلك الزيارات ترسيخ البعد الاجتماعي للدولة، لكنه أيضا يقف على مدى جديّة المسؤولين داخل الجهات، من ولاة (محافظين) ومعتمدين، في إدارة شؤون المدن وفتح ملفات الفساد.
وتضيف الأوساط أن من لم تصله دلالات تلك الزيارات ورسائلها، فمن المنتظر أن يتمّ التخلّى عنه في المرحلة القادمة.
وفعلا، تحدثت الاثنين وسائل إعلام محلية عن إصدار القضاء التونسي مذكرة إيقاف في حق رئيس النادي الصفاقسي عبدالعزيز المخلوفي ووزير الزراعة الأسبق سمير بالطيب وعدد آخر من المسؤولين بالوزارة والمركب الزراعي بالشعال.
وعبدالعزيز المخلوفي رجل أعمال ورئيس فريق رياضي بارز يشتبه في ضلوعه في ممارسات فساد بإدارة ضيعة الشعال للزيتون.
وزار قيس سعيّد الأحد، بمناسبة الاحتفال بعيد الشجرة، ضيعة (هنشير) النفيضة من ولاية (محافظة) سوسة (شرق) التي هي على ملك الدولة التونسية (ديوان الأراضي الدولية).
واطّلع الرئيس سعيّد على كل أجزاء ذلك المركّب العقاري الذي كانت توجد به مساحات مخصصة للأعلاف والخضروات والأشجار المثمرة إلى جانب عشرات الآلاف من أشجار الزيتون، فضلا عن تربية الدواجن والأبقار والخرفان ومحطة تكييف ولفّ منتوجات معدّة للتصدير.
وعاين الرئيس التونسي الخراب والتخريب الممنهج الذي لَحِقَ بضيعة النفيضة وبكل مركباتها، كما أمر بفتح تحقيق عدلي لتحميل المسؤولية لكل من يُثبت القضاء ضلوعه في نهب أموال الشعب والاتجار بعرق العمال.
ويرى مراقبون أنه في إطار مرحلة التحرير الوطني حان الوقت لاسترجاع الدولة أملاكها “المنهوبة” بعد الاستقلال في 1956 وخصوصا بعد 2011، في إطار المحاصصات الحزبية والتعامل مع الدولة بمنطق الغنيمة.
وأكد المحلل السياسي والخبير الأمني خليفة الشيباني أن “الزيارة تؤكد أن مرحلة التحرير الوطني قد انطلقت فعليا، وكلّ مسؤول لا يمكن أن يقوم بمهامه قد يعرّض نفسه للعزل من منصبه.”
وقال في تصريح لـ”العرب” إن “الرئيس سعيد يؤدي زيارات إلى مختلف المدن لأن الفساد مستشر بشكل رهيب، ومن المفترض أن يقوم المسؤول الجهوي بذلك، ومن لم تصله هذه الرسالة سيتخلى عنه في المرحلة القادمة.”
وأضاف الشيباني “كل مسؤول تداول على محافظة صفاقس سيحاسب، لأن ضيعة الشعّال مثال مصغّر لاستشراء الفساد في تونس، وحان الوقت لإحصاء العقارات والأملاك التابعة للدولة والنظر في كيفية استغلالها وإدارتها.”
واستطرد قائلا “إعفاء المسؤولين وتعيين آخرين مفادهما لدى الرئيس سعيد أن من سبقكم لم يؤدّ المهام التي أوكلت إليه”.
وقبل نحو أسبوعين زار قيس سعيد ضيعة الشعّال، ثانية كبرى غابات الزيتون في العالم، وتحدث من هناك عن صفقات فساد أحاطت ببيع نحو 37 جراراً.
وقال الرئيس سعيد في مقطع فيديو بثته صفحة الرئاسة عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك إن “هناك استياءً عميقاً من طرف المافيا من الغيث النافع، الأمطار التي هطلت على الغابة لأن نيتهم (من يستغلونها) كانت التفريط فيها،” لافتا إلى أنه “لا مجال للتفريط في ملك الشعب التونسي وأن حرب التطهير ضد الفساد ستستمر دون هوادة.”
كما قرر إعفاء عدد من العاملين في المركب، فضلا عن شراء 38 جرارا وحفر 11 بئرا وضخ حوالي 2500 مليون دينار (799 مليون دولار) لفائدة المركب.
وتم بعد ذلك إعفاء سهير بن قروية، المتفقدة الجهوية للتراث بالقيروان (وسط)، من مهامها.
وجاء الإعفاء بعد ساعات قليلة من معاينة الرئيس سعيّد لسور المدينة العتيقة، الذي انهار منذ أكثر من عام دون تدخل يُذكر، باستثناء وضع حواجز حديدية لحماية المارة.
وانتقد قيس سعيّد تعقيدات الإجراءات، وطول مدة الدراسات، والاعتماد المتكرر على الخبراء الأجانب.
وقال المحلل السياسي نبيل الرابحي إن “هدف الرئيس سعيد هو تركيز أسس الدولة الاجتماعية، ويسعى لحثّ المسؤولين الجهويين على توخي السياسة الاقتصادية والاجتماعية للسلطة، في وقت يوجد فيه مسؤولون يريدون ذرّ الرماد على الأعين.”
وأوضح لـ”العرب” أنه “تمّ تحويل 7 آلاف طن من الزيتون إلى فحم في ضيعة النفيضة وهناك من اقتلع أشجار الزيتون واستغلّ الأراضي والعقّارات.”
وأكد الرابحي أن “المسؤولين مازالوا لم يستوعبوا بعد فكرة ‘الشعب يريد’، وكل مسؤول لا يؤدي واجبه سيكون مصيره العزل.”
وفي سبتمبر الماضي عين الرئيس التونسي أربعة وعشرين محافظا لكل محافظات البلاد، تسعة منهم في محافظات كان المنصب فيها شاغرا، وخمسة عشر محافظا في محافظات أخرى.
وجاءت تلك التعيينات بعد مرور أسابيع قليلة على تعديل حكومي واسع كرس توجه السلطة نحو تفعيل دور اجتماعي وتنموي ظل مفقودا لسنوات.
وكشفت الخطوة أن الرئيس سعيّد سعى لتدارك خطأ مرتكب في تعيين المحافظين بعد الخامس والعشرين من يوليو 2021، على أساس الولاء السياسي، وأيقن أن طبيعة المرحلة تقتضي اختيار محافظين على أساس الكفاءة والمردود لتنفيذ سياسات الدولة وتوجهاتها في المرحلة القادمة.
وأجرى الرئيس التونسي نهاية أغسطس الماضي تعديلا وزاريا شاملا، عكس إستراتيجية السلطة لبدء مرحلة جديدة من أهم محاورها إصلاح المنوال التنموي والارتقاء بجودة الخدمات الاجتماعية، على غرار الصحة والتعليم والنقل، التي شملها التغيير.
وشمل التعديل 19 وزيرا و3 كتّاب دولة، واستثنى منه 5 وزارات، هي الداخلية والعدل والصناعة والمالية والتجهيز.