على مدى التاريخ يؤكد النحت أهميته محملا إبداعيا تغيرت تقاليده ومآربه، إلا أن جمالياته التي خضعت لقوانين الكمال والإبداع مازالت في الأساس في رأس أولوياته عند إنشاء الأعمال الخالدة شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، في بحث دائم عن المعنى، وهو الأمر الذي منح النحت على مدى السنين معناه الذي تناوله الفنان والناقد المغربي بنيونس عميروش في كتابه “النحت الصرحي في العالم العربي.. حدود التجسيم في الفضاء العمومي”، والذي قدم له الفنان والباحث في الجماليات العربية المعاصرة طلال معلا.
الكتاب، الذي صدر عن دار خطوط وظلال، طرح أسئلة مهمة حول عمليات التحول في المحترف النحتي العربي وظواهره الجديدة وتأثيرها على المشهد النحتي العام، مشيرا إلى مختلف الاتجاهات في تطورها العام وإصرار النحاتين على توسيع حدود النحت وكسر المفاهيم التقليدية للشكل، وبناء مفاهيم جديدة مرنة عبر تحولات الشكل والحجم والمادة والصورة، ومحاولة إيجاد البدائل الممكنة لحياة المنحوتات في الطبيعة.
النحت والميادين
يقول عميروش إن “فن النحت يتضمن الكثير من الأنواع، من النحت البارز ذي النتوءات المستخلصة من مادة السطوح بمختلف الدرجات، إلى النحت المستقل، الموصوف بالمحدبات التي تأخذ حيزها في الفضاء الذي تتحدد من خلاله زاوية النظر ومسافة التلقي. ولذلك لا يمكن فصل القطعة النحتية عن الفراغ الذي تنتصف فيه؛ فمن خلاله يتمثل المنحوت باعتباره كتلة مقتطعة من الفضاء. وإذا كان الفراغ الذي في النحت البارز أقرب إلى اللوحة، لكونه يشعل مسطحات بمساحات محددة وبأعماق متباينة، فإن الفراغ في النحت المحدب يتخذ بعدا مختلفا وأكثر شساعة غير محور في إطار صبري ضيق بالمعنى الملموس الذي تتحدد فيه اللوحة داخل مقاسات بروازها”.
ويضيف “كل ما يخرج عن نطاق النحت المحدب، بوصفه كتلة، يشكل الفراغ المفتوح بحسب طبيعة الفضاء الذي يحتضنه، وذلك ما يبرر استمرار توجه البحوث نحو المزيد من استغوار علاقات المادة والفضاء في النحت الحديث والمعاصر. بينما تبقى النماذج النحتية الضخمة ذات الصلة بتخطيط المدن وتأثيث الفسح المعمارية، أكثر الأنواع ارتباطا بهذه البحوث والتجارب، إذ يتضاعف الفراغ ويمتد أكثر فأكثر في النحت الصرحي (أو الميداني) الذي ينتصب في الساحات والفضاءات الخارجية، حيث يصبح الفراغ أكثر حيوية، في الحين الذي يصير فيه فضاء تفاعليا يعمل على استقطاب الجمهور العريض لتأمل العمل الصرحي الذي يعتبر محورا فاعلا في خلق قيم الجمال والتلاقي والتبادل والتشارك”.
إن تدارس مفهوم الفضاء العمومي حيث تحيا مادة النحت الصرحي وأبعاده، يشكل قطب الرحى في مجموع مباحث الكتاب، حيث يتوقف عميروش عند عدد من الآثار النحتية التي تزخر بها الحضارات العربية العريقة، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط (حضارة وادي النيل والحضارة السومرية والبابلية في سوريا وبلاد النهرين). بعدها يتوقف عند نماذج النحت الموصوف بالتمثيل المجسم في العالم العربي الحديث، ويلامس ما يتمتع به من سلاسة التلقي وفاعلية التأثير لدى الفئات الواسعة من الشعب، ضمن علاقة هذه الشواهد التجسيمية بفضاءاتها المدينية.
وفي إطار هذه العلاقة العضوية بين المنحوت وميدانه، يعود عميروش إلى أهم آثار الرعيل الأول من النحاتين العرب (الأكاديميين) الذين لم يدخروا جهدا في توسيم وتهذيب المدن والحواضر بالتماثيل والأنصاب الصرحية التي طالما شكلت جانبا مهما من تاريخ وذاكرة البلدان العربية بعامة. من خلال ما تشبعه من إشارات ورموز وعلامات تذكارية خالدة، فضلا عما تزخر به من كثافة القيم الجمالية والثقافية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
ويتابع “إضافة إلى البعد الثقافي الفاعل بدون شك، يشكل الجانب السياسي أهم الخلفيات التي رسمت أوجه النحت الصرحي وساحاته وسط الحواضر العربية، بحيث تظل الخلفية السياسية، في الكثير من الأحيان، مصدر قرارات إقامة الصروح وتحديد الأمكنة والشخصيات ومواضيع الأنصاب التذكارية في الميادين والفسحات التي تضمها، فيما تؤثر في مصائر التماثيل عبر ما يلحقها من إجراءات المحافظة والصيانة والتنقل والإزاحة والحجب والمحو وسواه. بينما في حالات هدم (التماثيل) وتخريبها ينبثق نوع العنف الذي يكشف طبيعة الخلفية الدينية لدى فئات المتطرفين الذين تتحول المنحوتات الفنية في وعيهم ولا وعيهم إلى ‘محرمات’ جديدة بالإطاحة. كما عاينا ذلك من أشكال التحطيم التي لحقت عددا من الشواهد الفنية في الحواضر والمواقع الأثرية خلال السنوات الأخيرة”.
يرى عميروش أنه إذا كان الفراغ في النحت البارز يظل أقرب إلى التصوير، حيث ينحصر الفراغ داخل حدود إطار اللوحة، فإن الفراغ في النحت المحدّب يتخذ بعدا منفرجا، إذ يغطي مجموع المحيط الدائري الذي تتمركز داخله القطعة التحتية. وبعبارة أخرى فإن كل ما يخرج عن نطاق النحت المحدّب ككتلة صلبة، يشكل الفراغ لكونه فنا فضائيا بامتياز، بحيث يتخذ عنصر الحجم في النحت مظاهره المجسدة في الفضاء ثلاثي الأبعاد، إذ تأخذ الكتلة المادية حيزها في الفراغ في القطع النحتية الصالونية (الصغيرة والمتوسطة الحجم) الموصولة بالفضاءات الداخلية (داخل الجدران). يتضاعف انفتاح الفراغ في الفضاء العمومي مع نماذج النحت الصرحي الموصوف بالضخامة والعظمة والمقاسات الهائلة.
نحاتون عالميون
يوضح عميروش أن فن النحت حاول بالكثير من الإصرار الانفلات من الانتماء إلى هذا التيار الفني أو ذاك بالتفكير الحر، على غرار النحاتين الكبار الذين قدموا الكثير جدا بما حققوه في أشكال الفن، كبيكاسو، ووبرانكوزي، وآراب وغابو، وهنري مور، الذين يمثلون أكثر الفنانين توليدا. إن تماثيل أوجيست رودان (1840 ـ 1917) تعكس إصراره على توليف عضوية الكتل الوعرة التي تنبض بالحياة في كل جزء منها، مشتقا من النماذج الحية كيفية استنباط الظلال الدقيقة للوضعيات المفتولة التي تترجم سمات الشخصية للجسم البشري وانفعالاته ومعاناته، ضمن عضوية إنسانوية مشحونة بقوة شاعرية، قائمة على ارتباطه الوطيد بالطبيعة، بعيدا عن الأنماط التقليدية، ودون التفريط في مقومات التجسيم كما خبرها لدى كبار المثالين كقيدياس ومايكل أنجلو. من ثمة ظل يركز على منح نماذجه طاقة حركية بادية في الفضاء.
◙ ممارسة النحت وتنصيبه لم ينقطعا في البلاد العربية بعد انتشار الإسلام فتحول من مفهوم صنم للعبادة إلى قطعة فنية
ومع ذلك وبالرغم من كون رودان فنانا عظيما فإنه لم يكن مبتكرا بالمعنى ذاته الذي حققه سيزان، كما يرى هربرت ريد الذي يشير إلى أن من الغريب أن تكون إنجازات المصور أكثر واقعا وتأثيرا في مستقبل النحت من تلك التي خلفها النحات نفسه على فن النحت، وقد أعقب رودان ، ميّول (1861 ـ 1944) وبروديل (1898 ـ 1916) اللذين كانا نحاتين عظيمين، أيضا، لكن الذين أعقبوا سيزان أمثال بيكاسو وغونزاليس وأرشبينكو وليبشتنر ولورينز، قدر لهم أن يكونوا البدائيين لفن جديد في النحت، ونحن إذ نسمي هذا النحت حديثا فلأنه كان خلقا فريدا لعصرنا ويدين بالقليل للفن الذي بقه في التاريخ.
ويحلل عميروش أعمال الكثير من الفنانين العالميين مثل كوستانتين برانكوسي، وألبرتو جياكوميتي، وبالداسيني سيزار، وأنطوني كارو، وفيليب كينج، وطوني سميث، لافتا إلى أن الإبدالات التي لحقت بممارساتهم النحتية، الكامنة في قوة التجاذب بين المادة والفضاء، بين الشكل والكتلة، تنطبق على طبيعة الحديث برمته، كاستجابة لسيرورة التطور الجمالي والفكري الموازي لنماء مجتمع التصنيع والتحديث، مجتمع الاستهلاك الذي دفع بالتساؤل عن مدى إدراكنا بواقع الأغراض المستهلكة من حولنا، الموجودات القريبة من دائرة محيطنا، في العالم الحديث الباعث على أسئلة وجودية، دفعت بالفن والإبداع الحجمي من داخله، إلى إعادة النظر في العلاقات الكتلية والفضائية، وفي سبل إعادة الحياة للمادة وتمييز حدودها التعبيرية والدفع بالنحت إلى نواظم الطبيعة، من خلال بلورة صياغات بلاستيكية مستحدثة، عملت على تعميق المدركات بالمادة، بهالتها وثقلها وكثافتها، وطبيعة تلمسها، ودرجة صداها في الفضاء.
ومن ثم تعدد المقاربات المادية والفضائية لتباشر تكثيف الملء وامتصاص الفراغ، وتمثله كجسم صلب، مع اختزال المادة والفضائية، واللعب على ضغطها وتقليصها، والتساؤل عن المسافة والحاضر والمنقوص المخفي من المادة ذاتها.
ممتلكات الحاضرة
تتبع عميروش حضور النحت في حضارات الشرق لافتا إلى أن البلاد السورية تعد مركزا فاعلا في تاريخ الفنون بمنطقة الشرق الأوسط في العصور التاريخية، نظرا لموقعها في قلب المنطقة مع امتداد أراضيها إلى حدود البلاد التي كانت مركزا للحضارتين العظيمتين المرتبطتين بوادي النيل في الجزء الغربي وبلاد النهرين في الناحية الشرقية، ما يبرر تعرضها للتأثيرات الحضارية المصرية من جهة، والسومرية البابلية من جهة أخرى.
من ثمة اقتصر النحت في البلاد السورية حينها على تماثيل معدنية صغيرة للآلهة، مثل أحد التماثيل للإله “بعل” 1900 ق.م رافعا أحد يديه إلى الأمام في وضعية وقوف حركية، مع الاعتناء بتفاصيل الوجه والجسم من الواجهة الأمامية فقط. بينما اهتم الآشوريون بالنقش البارز على الأحجار كممارسة طبعت الاهتمامات الفنية في حضارة بلاد النهرين (العراق حاليا)، وأقدم التماثيل التي عثر عليها في “آشور” ذات أحجام صغيرة، ويغلب عليها الطابع السومري، مثل تمثال “آشور ناصر بال” بوضعية ثابتة، فيما عثر على تمثال من الحجر يعود للدولة البابلية (539 ـ 625 ق.م) يشخص أسدا يفترس آدميا، وقد شوهدت هذه الوحدة قبل ذلك في قطع العاج الآشورية.
ويضيف “انطلاقا من مصر وبلاد النهرين إذا، ازدهرت الفنون بغنى لافت، وسرعان ما انتشرت في الجوار وباقي منطقة الشرق الأوسط القديم الذي يتبوأ مكانة جغرافية ذات أهمية بالغة في العالم. ما مكن المنطقة من الإشعاع الموصول بالتأثير المتنامي في رقي البشرية على الصعيدين الحضاري والروحي على حد سواء، إلى أن أسلم الفرس مشغل الرقي إلى الإغريق ليصل بعدها إلى الغرب الذي استفاد من بذخ حضارة الشرق وفنونه".
وحول فن النحت في الخليج العربي القديم يؤكد أنه على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين كشفت أشغال التنقيب الأثري عن دلائل على وجود حضارات قديمة في الساحل الغربي من الخليج العربي ـ سلطنة عمان، السعودية، الامارات، البحرين، الكويت، قطر ـ (منشأت معمارية دينية وجنائزية) وما قامت به مراكزها من دور فعال في مجالات العلاقات التجارية والتأثيرات الحضارية المتبادلة مع الحضارات المجاورة لها في بلاد النهرين وإيران والسند بصفة رئيسية، بينما برهنت دراسات ذات صلة مدى الحس الحضاري الذي تمتع به أهل تلك الحضارات عبر ما أبدعوه من فنون في مجالات متعددة تعكس بعض أوجه حياتهم البيئية ومعتقداتهم الدينية واتصالاتهم الخارجية.
ويلفت إلى أن ممارسة النحت وتنصيبه لم ينقطعا في البلاد العربية بعد انتشار الإسلام، إذ لم يكن من الصعب الانتقال من مفهوم الصنم المصنوع للعبادة بوصفه وثنا، إلى استيعاب التمثال باعتباره قطعة فنية تجسيمية للزينة ومتعة العين. وإذا كنا نلامس بعض التحفظ في نحت التماثيل التي تحاكي جسد الإنسان آنئذ، فإن النحت التجسيمي الحيواني (مختلف الحيوانات والطيور) ظل حاضرا باعتماد المواد الحجرية والمعدنية، وبخاصة الأسود والأحصنة التي باتت لدى الإنسان العربي رمزا للقوة والفروسية والنصر.
أما تنوع المواد النفيسة كالذهب والفضة والجوهر وغيرها في صناعة القطع النحتية، فهو معهود في بذخ الحكام ونخبة القصور التواقة باستمرار إلى إشباع الرغبة الجامحة في الاستمتاع وتيسير الجمالية المشهدية. من ثمة، ظل النحت، والاستمتاع بممارسة الفنون بعامة، موكولا للميسورين وفئة القيادة الموصولة بالسلطة ولو بشكل مستتر، فيما تم العمل على إبعاد عامة الناس عن ممارسة الفنون بحجة كونها محرمة في أماكن العبادة، بخلاف المسيحية التي سرعان ما حولت فنون التصوير والنحت إلى أداة تعليمية وتبشيرية، إلى حين تسخير الموسيقى في الكنائس بنفس الهدف ما جعل رجال الدين المسيحي في علاقة مباشرة مع الفنون وخصائص المادة.
ويخصص عميروش مبحثا لتحليل الفضاء العمومي والنحت الصرحي على مستوى المفهوم وأبعاد التحضر، يقول “إن إخراج فن النحت إلى الحدائق والفضاءات الرحبة والمطبوعة بالحميمية مع الشعب، إنما هو إخراج الفن من طابعه النخبوي الموسوم بالاستحواذ ضمن نزعة الملكية الذاتية والفردية، إذ تبقى الصروح النحتية مثبتة في الفضاء الخارجي باعتبارها من ممتلكات الحاضرة وقاطنيها وزوارها، في إطار ما يسمى بالملك العام”.
◙ البعد الثقافي والجانب السياسي يشكلان أهم الخلفيات التي رسمت أوجه النحت الصرحي وساحاته في البلدان العربية
ويضيف “إذا كان التضامن أو التعاكف الذي يتم بين المناحي المتنوعة للذات هو الذي يكون الدرجة الأولى من درجات الانفعال الجمالي، فإن التضامن الاجتماعي والتعاطف الكلي هما الأصل الانفعال الجمالي بأعقد صوره وأسمى مظاهره كما يرى جيو، ومن هنا فإن علم الجمال مثله في ذلك كمثل الأخلاق، إنما يبدأ بإنكار الأنانية، وما الحياة الاجتماعية سوى المظهر الأول لهذا الإنكار، ومعنى هذا أن الفن ظاهرة ذات طابع اجتماعي. ففي الوقت الذي يصبح فيه الفضاء المحتضن للأعمال النحتية محيطا للالتفات الجمعي، فإن ذلك يمنحه صفة نمط من أنماط متاحف الهواء الطلق، المفتوحة باستمرار في وجه الزوار بدون تذكرة، حيث يتحول الفضاء العمومي إلى وعاء للمتاحف المنفتحة، وحافظ لتراثها الصرحي كخبرة وكموروث فني وثقافي”.
ويخلص عميروش إلى أن الأعمال الفنية المنجزة في الفضاءات الخارجية للمدن تعد من أقوى العلامات الحضارية التي تعكس رقي الأمم والتحامها، سواء أكانت لوحات جدارية أو تماثيل تشخيصية أو منحوتات معاصرة، فيما تترجم سمو القيم وما تحمله من أبعاد وطنية، فإذا كان تمثال الحرية هو نقطة إشعاع مدينة نيويورك (العاصمة المالية لأميركا) وشعارها الأيقوني الفاعل في التعريف والسياحة، فإن تمثيل هوية الأمة يكمن في البناية الرمزية للكابيتول وفضائها في واشنطن، ونفس الدور يسري على مبنى البرلمان وقصر باكنغهام (المقر الرئيسي لملوك بريطانيا) والوزارات المرصوفة على امتداد شارع وايت هول في لندن.
أما باريس فإن المعالم التي تمثل هوية الأمة الفرنسية على ركح المجتمع الدولي، هي الشواهد الفنية والتاريخية لشارع الشانزليزيه، بداية من متحف اللوفر إلى حدود قوس النصر وبرج إيفل شعار فرنسا الخالد، إذ يبقى الإشعاع الرمزي للآثار الفنية أقوى بكثير من المقرات الحكومية مهما كانت باذخة، فحيثما خف الإشعاع الأثري في العواصم شيدت الأمم صروحا وطنية لتنحت علاماتها الصارخة البارزة.