يشكل انتشار مظاهر العنف حين ننظر إلى الماضي أمرا مفزعا، فهي تنتشر في الروايات والفنون والنصوص الدينية والكتب المدرسية، وفي العديد من المصادر الشعبية التي توثق المذابح الجماعية، وأعمال الشغب العنيفة، والتعذيب الشديد، والحروب المستمرة، والنزاعات الدموية، والعقوبات البشعة التي طالت الأفراد من العامة.
يفترض كتاب “سوسيولوجيا الحرب والعنف” للباحث أستاذ علم الاجتماع، الإيرلندي سينيشا مالشيفيتش أن العنف لا ينبغي تحليله بوصفه حدثا أو عملية فقط، بل من خلال إمعان النظر في التغير الذي طال التصورات المرتبطة بتلك الأحداث والعمليات أيضا، ويحاول ربط ذلك بالتحولات الاجتماعية الأوسع التي تمثلها المستويات بين الأشخاص والمستويات بين الدول ليقدم حجته الرئيسية عن أن العنف المنظم في تصاعد لم ينقطع يوما، مركزا على أمثلة الحرب والثورة والإبادة الجماعية والإرهاب ليكشف أن المنظمات الاجتماعية الحديثة تستخدم الأيديولوجيا والتضامن الجزئي في تعبئة الدعم العام للعنف واسع النطاق.
ويؤكد في تحليلاته فيما يتعلق بالإبادة الجماعية، التي خصها بفصل كامل، أنها مثلها مثل الأشكال الأخرى للعنف المنظم ليست أفعالا غير عقلانية يقودها مجانين، ولا هي إمكانيات بيولوجية متأصلة، بل ظاهرة اجتماعية ذات منطق اجتماعي خاص، وحتى نفهم كيف ولماذا ومتى تحدث الإبادة الجماعية؟ لا بد أن نحول انتباهنا من فكرة الباثولوجيا الفردية والانحرافات المتأصلة، باتجاه الآليات التنظيمية والأيديولوجية والتفاعلات الجزئية التي تجعل الإبادة الجماعية ممكنة؛ إذ قد يكون للشر دور في الإبادة الجماعية وقد لا يكون، لكن ما من إبادة جماعية من دون تنظيم وأيديولوجيا وتضامن جزئي.
جذور العنف
يرى مالشيفيتش في كتابه، الصادر أخيرا عن الشبكة العربية للأبحاث، أن أي عنف جماعي طويل الأجل -ولاسيما الصراعات واسعة النطاق كالحروب- يقتضي وجود هذين المكونين الجوهريين: قدرة تنظيمية بنيوية معقدة، وأيديولوجيا مشرعنة قوية وفعالة. فلأن البشر لا يمارسون العنف على نحو طبيعي وتلقائي، تتطلب ممارسته على نطاق واسع، كما في الحرب، آليات سيطرة اجتماعية تنظيمية متطورة، ومذاهب أيديولوجية مفصلة وممأسسة لديها القدرة على تبرير هذا العنف، بحسب مقابلة صحفية سابقة معه.
يحاول الباحث أن يستكشف الكيفية التي يتغير بها العنف المنظم على طول التاريخ البشري، وفي هذا السياق يحاجج في القسم الأكبر من كتابه أشكال العنف المنظم، حيث يرى أنه بدلا من القول بانحسارها “خبرت تحولا اجتماعيا هائلا كانت نتيجته قدرة تنظيمية وأيديولوجية على العنف، ونعني بذلك أن العنف تحول إلى قوة تنظيمية وأيديولوجية اكتسبتها المنظمات الاجتماعية؛ التي صارت أقدر على الاستفادة من التضامنات الجزئية المتنوعة واستخدامها لتوسيع نطاقها وشرعيتها. ويقتضي الفهم الجيد للكيفية التي تتطور بها القوى القمعية والأيديولوجية وتتوسع وتتحول، التطرق للعمليات التاريخية طويلة المدى التي دفعت بهذا التغير”.
ويضيف “احتكار الدولة المتزايد للاستخدام المشروع للعنف، وتراجع معدلات الأمية والتعليم الجماهيري وازدهار وسائل الإعلام والمجال العام، وبقرطة السلطة وأدلجة الجماهير، كلها عوامل أسهمت في إعادة رسم أطر العنف. لكن أفعال العنف لم تخمد، بل شهدت القرون الثلاثة الماضية زيادة كبيرة في حجم العنف المنظم؛ إذ اتسم القسم الأكبر من هذه الفترة بالتوسع التدريجي للدمار الشامل، ولم يشهد لذلك نظير كما في القرن العشرين بوقوع أكثر من 150 مليون ضحية، حيث انحصر الجزء الأكبر من هذه الوفيات في النصف الأول منه”.
ويتابع مالشيفيتش “لم تتفكك الدعائم التنظيمية والأيديولوجية التي تسببت في وقوع هذه الخسائر، بل لقد شهدت السنوات السبعين الماضية زيادة مستمرة في القوى القسرية والأيديولوجية للمنظات الاجتماعية والمجموعات المختلفة: بدءا من الدول القومية والشركات التجارية والمؤسسات الدينية، وصولا إلى الحركات الاجتماعية والمجموعات المختلفة. إن صعود هذه القدرة التنظيمية والأيديولوجية خلق بيئة اجتماعية قامت على تدجين العلاقات الاجتماعية باستخدام القسر من جهة، لتنتج هذه التهدئة القسرية، من جهة أخرى، ظروفا تسير باتجاه انفجارات دورية من العنف واسع النطاق”.
ويؤكد الباحث أن الجذور التنظيمية للإبادة الجماعية ترتبط بالقدرة التنظيمية المتزايدة للقوى الاستعمارية التي طورت بنية تحتية محسنة وأنماط التنظيم والقسر؛ ما يعني أن التقدم التنظيمي نسبيا في أوروبا ما بعد القرن السابع عشر كان ذا صلة مباشرة بالتجربة الاستعمارية. لقد اشتهر تشارلز تيلي بفكرته عن الصلة المتأصلة بين صنع الحرب وصنع الدولة في أوروبا في فترة ما قبل الحداثة، ونحن نرى أنها تنطبق على التوسع الاستعماري الخاص على أجساد سكان المستعمرات، فكانت النتيجة المباشرة لهذا التطور التنظيمي هي وفاة الملايين من السكان الأصليين في الأميركيتين بنسبة فاقت 80 في المئة، ومع أن الأرقام لم تكن بهذه الفجاجة في أجزاء أخرى من العالم، إلا أن التجربة الاستعمارية أسفرت لا محالة عن نتائج عنيفة جدا. ظهرت مؤسسة الإبادة الجماعية في وقت متأخر جدا في تاريخ البشرية نعم، لكن المكونات التنظيمية لنشأتها الأولى إنما رسخت لها قرونا من الاستعمار العنيف.
استدعاء ثقافي
يرى مالشيفيتش أن المنظمات الإرهابية سواء كانت تستلهم من أيديولوجيا دينية أو قومية أم شيوعية أو أناركية أم أيديولوجيات أخرى، تتشابه فيها أنماط التجنيد والتحفيز للمشاركة في العنف في معظم الحالات؛ حيث الشعور بالارتباط والمسؤولية تجاه الأصدقاء والأقران وأفراد الأسرة والمدرسين المحبوبين والمريدين والمعلمين، ويعمل الإرهابيون في بيئة سرية وخفية وبعيدة عن العالم السائد عادة، وهي تعزز إحساسا بالهدف المشترك.
وتتكون الخلايا الإرهابية في معظمها من عدة أفراد يقضون وقتا طويلا معا مخلصين لما يعتبرونه مهمة نبيلة، لذلك فديناميكيات حياتهم اليومية تحفز على تطوير وشائج صداقة قوية؛ فيكون التضامن الجزئي أهم من المبادئ الأيديولوجية في هذا السياق. وإذا كانت الأدلجة والبقرطة مهمتين في الجمع بين المتطوعين والحفاظ على جاهزيتهم التنظيمية، فإن الوشائج العاطفية والأخلاقية هي التي تحفز الأفراد على التورط في العنف والتضحية بالنفس، وهكذا ينضم الأفراد إلى المنظمات الإرهابية بصفتهم أعضاء في مجموعات صغيرة، ويشاركون في العنف عبر انتماءاتهم في مجموعات أيضا.
وكما في حالة الجنود في ميدان المعركة، يتجذر الاستعداد للقتل والموت لدى الخلايا الثورية، وحتى الجنود مرتكبي الإبادة الجماعية، في إحساس الفرد بالارتباط العاطفي والمسؤولية الأخلاقية تجاه مجموعته الصغيرة. ويلتف الأفراد في معظم هذه الحالات حول لغة أيديولوجية محددة، وربما أشارت كلماتهم وقت الاحتضار إلى الالتزام العقائدي العميق بالدين أو الأمة أو العرق أو الطبقة أو أي كيان مجرد آخر، لكن التزامهم الشخصي عادة ما يكون أكثر واقعية؛ متجسدا في عائلاتهم أو أصدقائهم أو أقرانهم.
ويضيف أن “هذا التناقض والتباين بين الخطاب والواقع هما نتاج المنظمات الاجتماعية. وتعمل المنظمات الناجحة بطريقة متشابهة، سواء أكانت دولا قومية أم مؤسسات أعمال أم كنائس أم شبكات إرهابية: فهي تستخدم الدعامات التنظيمية والدراية الأيديولوجية للتغلغل في الكون المصغر المؤلف من العلاقات الشخصية. وفي خضم هذه العملية تخلق الأدلجة والبقرطة الظروف التي تسمح بمحاكاة تنظيمية فعالة للعلاقات الإنسانية والعاطفية والأخلاقية”.
وبالنتيجة تستخدم جميع المنظمات الإرهابية، في رأيه، لغة القرابة أو الصداقة أو التلمذة أو علاقات الجوار أو روابط الأقران. كما أنها تستحضر الصور والذكريات المرتبطة بأسرة الفرد وأصدقائه وآخرين مهمين بالنسبة إليه. وفيما قد يبدو ذلك كله محاولة متعمدة للتلاعب بمشاعره في بعض الحالات، إلا أنه يتأتى أحيانا من المنطق التنظيمي؛ حيث تتغلغل الأيديولوجيا في خلاياه التنظيمية. وتعتمد بعض المنظمات السرية على هذا الدمج بين الأيديولوجيا والتضامن الجزئي أكثر من غيرها. كذلك توجد اختلافات واضحة في الاستعارات والصور التي يجري توظيفها في السرديات الأيديولوجية المتنوعة؛ لكن التغلغل في عالم الارتباط المصغر، تنظيميا وأيديولوجيا، هو شرط الفاعلية العسكرية والسياسية للمنظمات الإرهابية.
◙ لا إرهاب من دون ثقافة، لأن العنف الجماعي المنظم برمته ينطوي على استدعاءات ثقافية معقدة للمعاني الاجتماعية
ويشدد مالشيفيتش على أنه يصعب تخيل نشاط إرهابي لا يعتمد على رموز ثقافية خاصة، أو لا يستجيب لمعايير أخلاقية معينة، أو لا يقدم نصوصا سردية مميزة لتبرير استخدام العنف. وفي العديد من الجوانب المهمة لا إرهاب من دون ثقافة، لأن العنف الجماعي المنظم برمته ينطوي على استدعاءات ثقافية معقدة للمعاني الاجتماعية. ذلك أن البشر مخلوقات موجهة نحو المعنى، فتتطلب أفعالهم أهدافا وغايات ذات معنى. وإنما تكمن القوة الرئيسية لوجهات النظر المتمركزة حول الثقافة في هذه المحاولة التحليلية لالتقاط تأثير القيم على أفعال العنف والعكس. إن الارهاب يشكل ظاهرة اجتماعية وتاريخية تشكلها البقرطة التراكمية للإكراه والأدلجة المركزية الطاردة وتطويق جيوب التضامن الجزئي.
ومما يخلص إليه مالشيفيتش أن التغيرات التاريخية تكشف كيف أن العنف المنظم لم يتراجع على طول التاريخ، بل باق ويتمدد، وما دام الفعل الجماعي العنيف والدائم يعتمد على وجود أقفاص تنظيمية خاصة، وتماسك أيديولوجي ملائم، فليس من المرجح أن يختفي العنف ما بقي هذان العاملان. إذ شهدت الأعوام الاثني عشر ألفا الأخيرة من تاريخ البشرية، وعلى الرغم من التذبذبات الجغرافية والتنوع التاريخي، زيادة مستمرة وتراكمية في القوى التنظيمية والأيديولوجية التي تجعل العنف ممكنا.
ولا يخفي أنه قد تتغير طبيعة العنف عبر الزمان والمكان، لكن استمراره وانتشاره لا يزالان مرتبطين بهذه القوى التنظيمية والأيديولوجية؛ لا بل مستمرة في الزيادة. إن العنف شكل من الفعل الاجتماعي؛ لذلك قد يتغير طابعه واتجاهه وشدته لكن طمسه غير وارد بالكلية. وإنما يولد البشر ويموتون في سياقات عنيفة؛ فنلج هذا العالم عبر الألم الجسدي والعقلي المصاحب للولادة ما يجعل تجربة المجيء إلى هذا العالم حدثا شاقا ومؤلما حيث يولد الطفل في مخاض العنف الذي يسببه لوالدته. ثم نحن لا نغادر هذا العالم إلا في عنف تجربة الموت التي تصيب أجسادنا وعقولنا. ونواجه العنف بأشكاله المتنوعة على طول حياتنا برمتها أيضا. سواء شئنا أم أبينا إذا؛ العنف جزء مما يعنيه كوننا بشرا.