عادت تركيا بقوة إلى الانفتاح على شرق ليبيا بعد تطور علاقاتها مع قيادة الجيش في بنغازي من خلال التقارب بين المسؤولين الأتراك وأبناء الجنرال خليفة حفتر المكلفين بالملفات العسكرية والأمنية والاقتصادية انطلاقا من مركز القرار في بنغازي.
وأعلن سفير تركيا لدى ليبيا غوفين بيجيتش عن افتتاح القنصلية التركية في مدينة بنغازي في القريب العاجل، كما ناقش خلال زيارته لبلدية بنغازي ولقائه برئيس المجلس التسييري صقر بوجواري، الاثنين، خطوات عودة رحلات الطيران التركية بعد استيفاء المعايير والإجراءات المطلوبة.
وأكد السفير التركي على أهمية التعاون المشترك بين البلدين لما فيه مصلحة الجميع، معبرا عن رغبة تركيا في تعزيز الحركة الاقتصادية والتجارية بين الجانبين.
وفي فبراير الماضي، صرّح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بأن أنقرة قررت إعادة افتتاح قنصليتها في مدينة بنغازي شرق ليبيا قريبا، مشددا على أن بلاده “لا ترغب في رؤية اشتباكات بين شرق وغرب ليبيا أو أي اشتباكات في جنوبها”.
وأكد ضرورة حل ليبيا لمشاكلها عن طريق الحوار، قائلا “لا نريد للانقسام الحالي بين الشرق والغرب أن يصبح دائما، نعتقد بأنّ هذا الانقسام يجب أن يحل بطريقة سلمية من خلال الحوار وبموافقة كافة الأطراف”.
وشدد فيدان في حوار مع قناة “سكاي نيوز عربية” على أن “علاقات أنقرة مع شرق ليبيا تتقدم بشكل جيد للغاية وهناك تواصل مع الجنرال خليفة حفتر ومحادثات مع أبنائه”، مشيرا إلى “التباحث مع مصر والإمارات وقطر حول كيفية توحيد ليبيا”.
مدير عام صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا والسفير التركي بحثا عودة الشركات التركية لاستئناف أعمال المشاريع المتعثرة
وناقش رئيس بلدية بنغازي مع السفير التركي مواضيع ذات اهتمام مشترك، بما في ذلك تكثيف زيارات رجال الأعمال ودعم الجوانب الاقتصادية، كما تطرقا إلى إمكانية التعاون في ترميم المباني التاريخية، والاستفادة من الخبرات التركية في مجالات البنية التحتية والإعمار، وتطوير القدرات البشرية في البلدية.
وسبق أن وقّع بلقاسم حفتر، مدير عام صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبي، عقود عمل مع شركات تركية لتنفيذ مشاريع عدة في مدينة بنغازي، وقالت لجنة الإعمار المكلفة من مجلس النواب حينها إن بلقاسم وقّع “مع كبرى الشركات التركية المتخصصة في مجال المقاولات العامة والتجهيزات والبنية التحتية، لمباشرة أعمالها لعدة مشاريع في بنغازي”.
والتقى بلقاسم حفتر، الاثنين، بالسفير التركي لبحث تعزيز التعاون المشترك في مجالات الإعمار والتنمية، وعودة الشركات التركية لاستئناف أعمال المشاريع المتعثرة والمتوقفة منذ أكثر من 12 عاما.
وتناول اللقاء سبل الاستفادة من الشركات التركية المتخصصة في مجالات البنية التحتية والاستشارات الهندسية والإنشاءات بهدف تحقيق الأهداف المشتركة وفقا لخطة الصندوق لتحقيق أهدافه التنموية والخدمية لكل البلديات دون استثناء، وناقش الطرفان الإجراءات التنفيذية الجارية لاستئناف عمل القنصلية العامة التركية في بنغازي وعودة الخطوط الجوية التركية لتسيير رحلاتها من وإلى مطار بنينا الدولي في الفترة المقبلة.
وفي يناير 2022، أدى السفير التركي السابق في ليبيا كنان يلماز زيارة إلى مدينة بنغازي، هي الأولى من نوعها لمسؤول تركي لهذه المدينة، بعد سنوات من القطيعة بين أنقرة والشرق الليبي.
السلطات التركية تمارس أعلى درجات البراغماتية في ليبيا من خلال توثيق علاقاتها مع مختلف الأطراف سواء في طرابلس أو في بنغازي
وقال مراقبون آنذاك إن التحولات الإقليمية، وخاصة المصالحة التركية مع أبوظبي والرياض، والمصالحة العربية الخليجية مع قطر، ومؤشرات التقارب التركي – المصري، ساهمت في حلحلة الموقف بين أنقرة وقيادة الجيش في الشرق الليبي.
وفي أبريل من العام ذاته، أعلن عن استئناف الرحلات الجوية بين تركيا وبنغازي، وهو ما أدى إلى تدفق رجال الأعمال الأتراك على مطار بنينا، وإلى تنشيط الحركة التجارية والاقتصادية بين الطرفين، وكذلك استأنفت “شركة ليماك” التركية القابضة المتخصصة في مشاريع البناء والإسمنت صيانة أكبر ملعب رياضي في مدينة بنغازي شرقي ليبيا بعد توقف 12 عاما إثر اندلاع انتفاضة 2011.
وفي يوليو الماضي، وقّع الجهاز الوطني للتنمية عقود تنفيذ مشروع أبراج بنغازي مع شركة “تي.جي.جي” التركية. والمشروع عبارة عن 3 أبراج (سكن وفندق ومكتبي) تطل جميعها على بحيرة 23 يوليو وسط بنغازي بالقرب من المدينة الرياضية.
وأعلنت شركة توسيالي التركية للصلب عن توقيع اتفاقية مع شركة الصلب المتحدة الليبية لإنشاء منشأة مباشرة للحديد المخفض (DRI) في بنغازي، وقالت إن “هذه المنشأة ستكون جزءا من مصنع متكامل للحديد والصلب، بقدرة إنتاجية تصل إلى 8.1 مليون طن سنويا”.
من جانبه، أكد رئيس مجلس إدارة شركة توسيالي القابضة فوات توسيالي أن “الاستثمار الجديد في ليبيا يأتي ضمن إستراتيجية توسيع استثمارات الشركة على طول ساحل البحر المتوسط، وخاصة في أفريقيا، والتي تعد من المناطق الاستثمارية ذات الأولوية”.
المتابعون يجمعون على أن بنغازي فتحت ذراعيها لتركيا من منطلقات عدة مرتبطة بالعلاقات الثنائية وطبيعة التحالفات الداخلية والتأثر الإقليمي والدولي
ورأى رئيس مجلس إدارة الشركة الليبية المتحدة أحمد جادالله أن “الاتفاقية خطوة مهمة لتعزيز تصنيع بنغازي وتطوير قطاع الصلب”، ووصفها بـ”خطوة كبيرة نحو المستقبل والتقارب الاقتصادي بين ليبيا بنغازي وتركيا”، ملاحظا أن “هذا الاستثمار سيتيح لليبيا المشاركة في إنتاج الصلب على مستوى عالمي، كما أنه سيسهم في تبني مبادئ الصلب الأخضر وخفض انبعاثات الكربون”.
والتقى بلقاسم حفتر وزير الخارجية التركي بمقر وزارة الخارجية التركية في العاصمة أنقرة، حيث “ناقشا سبل تطوير التعاون الثنائي بين البلدين”، دون المزيد من التفاصيل.
وبحسب مراقبين، فإن “تطبيع العلاقات” بين مصر وتركيا ساهم في تهيئة الظروف المناسبة لعودة تركيا بقوة إلى شرق ليبيا بعد أن كانت الداعم الأساسي لمنظومة فجر ليبيا وقوى الإسلام السياسي في مواجهة الجيش الوطني بقيادة الجنرال خليفة حفتر.
وخلال زيارته إلى أنقرة في سبتمبر الماضي، أكد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أنه تم خلال لقائه مع الرئيس رجب طيب أردوغان “تبادل وجهات النظر حول الأزمة الليبية حيث اتفقنا على التشاور بين مؤسساتنا لتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي في ليبيا، مع تأكيد أهمية طي صفحة تلك الأزمة الممتدة، من خلال عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية بالتزامن، وخروج القوات الأجنبية غير المشروعة والمرتزقة من البلاد، وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة حتى يتسنى لليبيا الشقيقة إنهاء مظاهر الانقسام، وتحقيق الأمن والاستقرار”.
ويجمع المتابعون على أن بنغازي فتحت ذراعيها لتركيا من منطلقات عدة مرتبطة بالعلاقات الثنائية وطبيعة التحالفات الداخلية والتأثر الإقليمي والدولي، واستفادة تركيا من تطبيع علاقاتها مع مصر والإمارات ومن النفوذ الروسي المتزايد بالمنطقة وكذلك من رغبة شرق ليبيا في الوصول إلى تحقيق التوازن المطلوب مع المنطقة الغربية بما يخدم مصالح مراكز صناعة القرار في بنغازي.
وكشف موقع “أفريكا إنتليجنس” الاستخباراتي الفرنسي عن استفادة تركيا من تحسن العلاقات بين المنطقة الشرقية والغربية، وقال في تقرير له الأسبوع الماضي إن رئيس أركان القوات البرية الفريق صدام حفتر أبرم عددا من صفقات الأسلحة خلال تواجده في تركيا، بالأخص تلك المتعلقة بالمدفعية والذخائر والمركبات المدرعة، والتقى عددا من رؤساء الشركات العسكرية المتخصصة في مجالات الدفاع والاتصالات الرقمية.
وبحسب المراقبين، فإن السلطات التركية تمارس أعلى درجات البراغماتية في ليبيا من خلال توثيق علاقاتها مع مختلف الأطراف سواء في طرابلس أو في بنغازي، وهو ما جعل الوجود العسكري والأمني في المنطقة الغربية يتحول إلى أمر واقع لا معارضة فعلية له.
ولم تعد السلطات الحاكمة في شرق ليبيا تخشى تدخلا معاديا لها من قبل الجانب التركي، لاسيما في ظل وجود شبه توافق على استمرار الأوضاع الحالية على ما هي عليه إلى حين تحديد الوضع النهائي والاتفاق على طبيعة النظام السياسي في ليبيا وما سيتضمنه الدستور القادم من تحديد أطر السلطة المركزية والمؤسسات السيادية والتقسيم الإداري للبلاد.