اتجهت الحكومة المصرية نحو استدعاء بعض المفكرين في مجالات مختلفة للاستماع إلى آرائهم بشأن التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولة، وتأثيراتها المجتمعية والسياسية في ظل أوضاع متدهورة بالقرب من الحدود المصرية، في محاولة للاستفادة من خبرات خبراء التكنوقراط، لتصويب قراراتها وتوجهاتها وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين.
والتقى رئيس الحكومة مصطفى مدبولي بعدد من المفكرين للمرة الثانية، الاثنين، وركز اللقاء الأخير على مناقشة قضايا سياسية مثارة، والاستماع إلى أصوات عاقلة يمكن أن تقدم رؤية موضوعية عن الأوضاع الداخلية على وجه الحديد إثر اتخاذ جملة من القرارات الاقتصادية الصعبة وآخرها رفع أسعار الوقود، مع توقعات باتخاذ المزيد من الإجراءات على سلع أخرى الفترة المقبلة.
وقال مدبولي خلال لقائه "نحن منفتحون على جميع الآراء والمقترحات والأفكار، بل والانتقادات أيضا، ويهمني هنا في هذا الصدد الإنصات لكل ما تطرحونه، بما يُسهم في تحقيق المصلحة العامة للدولة المصرية". ومن المنتظر أن تكون هناك جلسات تخصصية مع عدد من القامات الفكرية في مختلف مجالات النقاش والتشاور حول ملفات محددة، وتبدأ بمناقشة الأوضاع السياسية على المستويين الخارجي والداخلي.
واستعانت الحكومة المصرية بالخبراء التكنوقراط وحرصت على ألاّ تكون للمشاركين انتماءات سياسية بعينها، ما يشير إلى كونها تهدف إلى الاستماع إلى آراء تقدم حلولا موضوعية دون تقديم بدائل تتماشى مع توجهات وأيديولوجيات مختلفة. وكان من بين المشاركين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة علي الدين هلال، ومدير برنامج العلاقات الدولية بالمركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، محمد كمال، وسفير مصر الأسبق لدى واشنطن السفير محمد توفيق.
وقدم المفكرون رؤيتهم حول الانتخابات البرلمانية المرتقبة والمحليات، وأوضاع شرائح المجتمع المختلفة، والأجانب في مصر، وأكدوا أهمية التحرك الميداني لرئيس الوزراء والمسؤولين، في الوقوف على حقيقة المُشكلات، واقترحوا عقد لقاءات مع قطاعات مختلفة، ونُخب محلية بالمحافظات لخصوصية القضايا المرتبطة بها.
ويشير تدشين مسار جديد للنقاش بعيداً عن سياق الحوار الوطني الذي انطلق قبل عامين ويواجه بعض الانتقادات لعدم تنفيذ مخرجاته، إلى أن الحكومة ترى بأنه لم يحقق المرجوّ منه على مستوى تدشين حوارات مجتمعية فاعلة، أو أنها لم تقتنع بما أفرزته مخرجاته، وأنها اختارت البحث عمّن يقدمون المشورة وفقًا لرؤى ليست لها انعكاسات أيديولوجية، وأن تختار ما يتماشى مع توجهاتها العامة في الملفات الاقتصادية والسياسية، وبما يساهم في الوقت ذاته على التأكيد بأنها لا تتمسك بالجمود في تصوراتها ويمكن أن تراجع بعض القرارات، في حال وجدت رؤى مغايرة أفضل من التي ارتكنت عليها.
كما أن غياب المفكرين والنخب بوجه عام عن مشهد اتخاذ القرارات المصيرية جعل الحكومة بلا ظهير يمكن أن يدافع عن توجهاتها، خاصة أنها لا تجد معارضة تذكر يمكن أن تدفعها لمراجعة قراراتها أو دراستها بشكل أكثر جدية وموضوعية، كما أن البرلمان الذي تطغى عليه أغلبية حكومية تحول إلى نقطة ضعف نتيجة عدم ثقة المواطنين بما يمرره من تشريعات وقرارات يرون بأنها لا تصب في صالحهم، وبالتالي فإن البحث عن متنفس جديد يمكن أن يكون بمثابة رئة جديدة للحكومة تُمكنها من مواجهة التحديات والصعوبات التي تقابلها يبقى أمرا منطقيا في هذا التوقيت.
وقال عضو مجلس الشيوخ المصري ورئيس حزب المصريين الأحرار عصام خليل إن اللقاءات مع قادة الفكر تعبّر عن نهج جديد يهدف إلى خلق قاعدة تواصل مع المفكرين من التكنوقراط بهدف خلق مسار مواز للحوار الوطني، غير أن نتائج ما سوف تسفر عنه هذه اللقاءات يصعب التنبؤ به، ويتوقف الأمر على ما قدمه المفكرون من طروحات للتعامل مع الأزمات، ومدى تجاوب الحكومة معها والاتجاه نحو تنفيذها.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن الحكومة تؤكد أنها تنفتح على المقترحات المفيدة بالنسبة إليها، وأن المفكرين يمكنهم تقديم رؤى قابلة للتنفيذ وحال لم تأخذ الحكومة بها نكون أمام مجرد اجتماعات، مشيراً إلى أن سلوك الحكومة يعبّر عن توجه جديد وليس نتيجة ظرف سياسي واقتصادي صعب، لأنها في حاجة إلى أفكار متجددة على المستوى الاقتصادي ومن المتوقع أن تطال الاجتماعات رجال أعمال ومستثمرين.
ويشير متابعون إلى أن تعدد مسارات الحوار أمر إيجابي، غير أن عدم الخروج بنتائج محددة وتنفيذها يحولها إلى أسلوب الجري في المكان دون أن يشعر الرأي العام بها لعدم انعكاس نتائجها مباشرة على المواطنين، وحال كانت الحكومة أكثر جدية ينبغي أن يكون الحوار مجتمعيا على نحو أكبر، بمعنى فتح المجال العام أمام الآراء والطروحات والانتقادات وإشراك وسائل الإعلام بفاعلية في التباحث حول القضايا التي يهتم بها المواطنون والإقدام على تعديل الرؤى التي ساهمت في التراجع الاقتصادي وانعكاسه السلبي على الأوضاع المعيشية.
وستكون الحكومة في حاجة إلى الاستجابة أولاً إلى ما خرجت به النخب السياسية والاقتصادية والمجتمعية في الحوار الوطني، وتسريع وتيرة تحويل المقترحات إلى تشريعات وقوانين واتخاذ قرارات من شأنها كسب ثقة الرأي العام. وفي تلك الحالة، يمكن أن تكون النظرة إيجابية نحو خطواتها الحالية، كما أن إدخال تعديلات على توجهاتها السياسية والاقتصادية التي يتضرّر منها القطاع الأكبر من المصريين سيجعل هناك قناعة أنها جادة في الاستماع للآراء المختلفة والاستفادة منها.
وأكد أستاذ العلوم السياسية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة حسن سلامة أن الظرف السياسي الراهن يفرض نفسه على توجهات الحكومة للانفتاح على الحوار، ولم تعد لديها رفاهية الاختيار وأن البحث عن بدائل لسياساتها الحالية هو الحل الوحيد أمامها الآن، ما يضمن السير في طريق بناء الجمهورية الجديدة التي يصعب وضع أركانها بنفس الأساليب القديمة.
وذكر لـ"العرب" أن البحث عن سياق تفاعلي جديد بين الحكومة والمواطنين يقوم على الثقة المتبادلة وهو هدف أصيل للحكومة التي تعمل على تعزيز المشاركة والتعامل مع إحجام المصريين عن التفاعل بجدية مع بعض توجهاتها.
وشدّد على أن الحكومة استجابت أخيراً لنداءات كثيرة طالبت بالاستماع لآراء الفكر والعلم والمعرفة، ومحاولة تطبيقه، وأن الجمع بين الجهات التنفيذية والأكاديميين يبرهن على وجود مساع جادة لإحداث عصف ذهني يمكن أن يساهم في تخفيف الأزمات، مع ضرورة استمرار هذه الجلسات وتنوع الحاضرين فيها، بهدف زيادة مساحة الثقة بين الدولة والمجتمع بما يحقّق الاستقرار المنشود.
ولفت إلى أن الحكومة تبعث بإشارات مفادها أن لديها شفافية تجعلها أكثر رغبة، لأن تكون المشاركة المجتمعية حاضرة في صنع القرار وتقديم البدائل قبل اتخاذه، وتؤكد على أن الدولة منفتحة على جميع الآراء والتوجهات بلا قيود ما يمنح قدرا من التفاؤل المطلوب في هذا التوقيت، وأن السياسة في مصر لا تعتمد على فكرة الأحزاب وحيويتها والانتخابات البرلمانية والرئاسية وغيرها، لكنها ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية ما يجعل الحكومة في حاجة لفتح المجال العام على نحو أكبر.