تتجه الأوضاع في شرق السودان نحو المزيد من التعقيد في ظل احتدام المعارك في ولاية الجزيرة (وسط السودان) المتاخمة لولاية كسلا (شرق)، ومع اتجاه الجيش لخلط الأوراق عبر نشر ميليشيات مسلحة تتبع إثنيات وقبائل مختلفة، أغلبها حظي بتدريب في إريتريا، ما يشير إلى أن خارطة التحالفات داخل الإقليم قابلة للتغير وفقا لمجريات الأوضاع العسكرية، مع احتمال دخول أطراف إقليمية.
وأعلنت ميليشيات تطلق على نفسها “الأورطة الشرقية”، تتبع الجبهة الشعبية المتحدة بقيادة الأمين داؤود، نشر قواتها في شرق السودان بالتنسيق مع قوات الجيش، في أول انتشار لميليشيا في مناطق لم تصلها الحرب، وذلك بعد تدريبات عسكرية في إريتريا.
وقالت الميليشيا في بيان لها “قواتكم الباسلة بقيادة الجنرال الأمين داؤود محمود تنتشر وتنفتح نحو الإقليم الشرقي بعد عملية مشاورات فنية وعسكرية مع قوات الشعب المسلحة، ضمن إستراتيجية قوات الأورطة الشرقية بحماية الأرض والعرض مع المنظومة الأمنية في البلاد”.
وأضحى شرق السودان يعج بميليشيات تنتمي إلى قبائل وإثنيات مختلفة، إذ يشهد الإقليم إلى جانب ميليشيات الأمين داؤود، وقوامها من قبيلة البني عامر، والذي كان من الموقعين على اتفاق جوبا للسلام، ممثلاً عن منبر الشرق، ميليشيا أخرى تابعة لمؤتمر البجا، جناح موسى محمد أحمد، وقوامه من قبيلة الهدندوة، وثالثة تتمركز في حي بوسط مدينة بورتسودان تتبع مؤتمر البجا، جناح شيبة ضرار، ورابعة في مدينة كسلا، باسم الأسود الحرة تتبع قبيلة الرشايدة بقيادة مبروك مبارك سليم.
ويسهم نشر قوات عسكرية تنقسم في ولاءاتها إلى أكبر مكونين اجتماعيين في شرق السودان، وهما الهدندوة والبني عامر، في فتح المجال أمام انخراط تلك العناصر المسلحة في صراعات بينية، وأن الاشتباكات القبلية التي كانت تندلع بين حين وآخر في شرق السودان منذ اندلاع ثورة ديسمبر قابلة لتكون موسعة في حال تكررت في المستقبل القريب، وأن رهان الجيش على تبعية هذه القوات إليه وعملها تحت بصره يصعب أن يضمن عدم اتخاذها مواقف مغايرة قد تنقلب عليه بمقتضاها، وسعيه إلى تأمين شرق السودان باستخدام سلام الميليشيات بدلاً من نشر قوات الجيش يشكل تهديدا للشرق.
ويبقى البعد الإقليمي حاضراً في الإعلان عن نشر ميليشيات مسلحة في الشرق، وأن قيادة الجيش تهدف إلى إرسال إشارات، مفادها أنها قادرة على تفخيخ الشرق، حال قررت قوات الدعم السريع التقدم إليه.
وفي المقابل تبرهن هذه الميليشيات على أن مصالح الدول الكبرى في الإقليم عبر مساعيها لإقامة قواعد عسكرية على البحر الأحمر والاستفادة من الموانئ البحرية تواجه تهديدات مماثلة عند انفراط عقد هذه الميليشيات، ما يجعل الجيش أكثر قدرة على تخفيف الضغوط الواقعة عليه، والتأكيد أن الأوضاع تحت سيطرته بشكل كامل.
ويشير نشر ميليشيات مسلحة تلقت تدريبها في دولة إريتريا على أن أسمرة أضحت طرفا في الصراع القائم، ورغم مساعيها للخروج من مأزق دعم الجيش أو قوات الدعم السريع إلا أن نشر قوات تعمل تحت رعاية الجيش وتدربت في أراضيه يشي أنها خرجت عن الحياد، وزادت مخاوفها من انتقال الصراع إلى إقليم الشرق المتاخم لها، وهو ما تهدف إليه حكومة الأمر الواقع في بورتسودان التي تحاول استقطاب الدول التي تخشى تأثيرات الحرب السلبية عليها في صفها.
وقال المحلل السياسي المتخصص في شؤون شرق السودان أحمد خليل إن الميليشيات التي نشرت عناصرها في ولاية كسلا تتواجد منذ اندلاع الحرب، وتلقت تدريباتها في إريتريا، والآن ظهرت على السطح تحت مسمّى حماية التهديدات التي تحيط بشرق السودان عقب الانتهاكات التي وقعت مؤخرا في ولاية الجزيرة، والمخاوف من تمدد الصراع إلى الشرق.
وأضاف لـ”العرب” أن تلك الخطوة تعبر عن تطور يؤكد أن الجيش لن يقاتل في شرق السودان بشكل صريح، وستكون هذه المجموعات المسلحة هي أدواته الرئيسية، ما يقود إلى تعقيد الأوضاع الأمنية على نحو أكبر في المنطقة.
وأوضح أن الجيش يمضي في طريقه نحو تأسيس المزيد من الميليشيات ليقاتل بعضها البعض، مثلما حدث سابقا مع الحركات المسلحة في دارفور، ويهدف إلى التأكيد على أنه ليست لديه خلافات مع أيّ من المكونات القبلية في الشرق، والدليل أنه سمح للجميع بحمل السلاح بالتعاون والتنسيق معه، غير أنه في الوقت ذاته يغذي التنافس بين هذه القبائل، وليس من المستبعد أن يتحول إلى صراع موسع في المستقبل القريب.
وأكد القيادي بمؤتمر البجا محمد أحمد مختار أن الجيش السوداني سمح لعدد من الميليشيات المسلحة بالانتشار في شرق السودان لتأمين المواقع الحيوية، ويدرك أنه في حال وصلت الحرب إلى الإقليم ستكون مغايرة عن تلك التي تدور حاليا في ولايات أخرى، بفعل الأهمية الإستراتيجية لإقليم الشرق على ساحل البحر الأحمر، كما أن دول الجوار (مثل مصر وإريتريا) تخشى من تأثيرات وصول الحرب إلى الإقليم على أمنها القومي، وأن امتدادها إلى الإقليم يعني تغييراً كبيراً في موازين القوى على الأرض، وهو ما يحاول الجيش تلافيه من خلال هذه الميليشيات.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن الجيش السوداني يسعى لأن يجهز مسبقا لأيّ معارك متوقعة، منذ أن بدأت دعاوى لاستنفار المواطنين ودعوة الشباب للانضمام إلى الميليشيات لتجهيز أنفسهم لحرب قد تطال أهاليهم والمناطق التي يتواجدون فيها، مشيرا إلى أن قيادة الجيش تهدف إلى سد الثغرات لدى المناطق التي ترى بأنها لن تكون قادرة على التواجد فيها في المدن والطرق الرئيسية وتحتاج إلى جبهات إسناد أخرى.
ولفت إلى أن الجيش يرتكن على تجارب سابقة نجحت في دمج قوات المجموعات المسلحة داخلها وفقا لاتفاق أسمرة عام 2006، ويرى أهمية في التعامل مع قوات تتبع لأحزاب ومكونات سياسية، إلا أنه في الوقت ذاته يلعب بالنار، ففي حال تغيرت موازين القوى بالمنطقة واختلفت أجندات الميليشيات المسلحة وتعددت الخيارات أمامها لن تحافظ على تماسكها ووقوفها خلف الجيش، وستكون لديها خيارات أخرى للحفاظ على مصالحها، وإذا توقفت الحرب هناك أجندات قبلية قابلة للاشتعال قد تظهر.