قبل فجر الأربعاء بنحو ساعتين، في هدأة ليلة خريفية بمصر، دوت مواقع التواصل الاجتماعي بأصوات الإشعارات والتنبيهات معلنة خبرا حزينا شق سكون الليل، ورسم ملامح دمعة في الأعين الساهرة التي تتأهب للنوم، فقد انتشر خبر وفاة الفنان مصطفى فهمي مخلفا حالة من الحزن لدى عموم المصريين، راحوا على إثرها يستعيدون بذاكرتهم دراما الماضي الجميل التي يعتبر الراحل أحد رموزها.
عاش حياته بابتسامة ورحل بصدمة، هكذا يمكن تلخيص قصة الفنان المصري الجميل الذي أحبه الناس دون حاجة إلى أن يعرفوه بشكل شخصي، فلم يظهر يوما في حكاية تسيء إليه أو اشتباك ينال منه، إنما جاءت أغلب صوره الشخصية ولقاءاته الإعلامية طوال حياته مغلفة بالبسمة والتفاؤل، وروح المرح الدافعة إلى محبة الحياة، حتى وُصف فهمي المولود في شهر أغسطس عام 1942 بأنه شاب في الثمانين.
الممثل المحبوب
كأنما أراد ألا يقترن اسمه إلا بالجمال والبهجة حتى اليوم الأخير في حياته، إذ أخفى خبر مرضه عن الجميع، ولم يعرف الناس بمن فيهم أغلب زملائه في الوسط الفني إلا بعد وفاته بأنه كان يعاني على مدى الأشهر الستة الماضية، عقب اكتشاف إصابته بورم في المخ في شهر مايو، وإجرائه جراحة لإزالته في أغسطس، تحسن بعدها نسبيا، لكن عاد الورم الخبيث للنمو من جديد فتدهورت صحته، حتى عجز عن المواجهة، وحان موعد رحيل البسمة لتبقى الصدمة فقط سيدة المشهد الأخير عند كل محبيه.
لا يعرف الإنسان كيف تمضي به رحلة الحياة، أو ما يخفيه له القدر، فقد جاء دخول مصطفى فهمي عالم التمثيل دون نية أو تخطيط، إذ تخرج في المعهد العالي للسينما بمصر قسم التصوير، ثم استكمل دراسته في الولايات المتحدة، ليعود بعدها إلى مصر ويشارك في العمل مساعدا للتصوير في عدد من الأفلام، منها فيلم “أميرة حبي أنا”، الذي عرض لأول مرة في يناير عام 1975 من بطولة شقيقه الفنان حسين فهمي والفنانة سعاد حسني، إخراج حسن الإمام، ليلتقِي به المخرج عاطف سالم بعدها ويعرض عليه دورا في فيلم “أين عقلي” خلال نفس العام، لتبدأ عندئذ وقائع الرحلة.
◙ شخصيات متنوعة قدمها مصطفى فهمي عن حياة الناس ومعاناة النفوس بينما ظلت حياته الشخصية تعبيرا عن المحبة
الوجه الوسيم والابتسامة الجميلة والأداء التمثيلي البسيط دون افتعال، عوامل ساهمت في بناء قوة انطلاقة النجم الجديد آنذاك، فلا تشرق شمس العام التالي 1976 إلا ويكون اسم مصطفى فهمي حاضرا في أربعة أعمال دفعة واحدة هي “قمر الزمان” و”لمن تشرق الشمس” و”وجها لوجه” و”نبتدي منين الحكاية”، ليصبح ممثلا محبوبا له بصمة واضحة في أيّ عمل يظهر به وإن لم يكن بطله الأول، بأدائه السهل الممتنع وأدواره المتنوعة.
أكثر من مئة وخمسين عملا بين السينما والتلفزيون شارك فيها فهمي، لا ينساها الجمهور ولا ينسى أدواره فيها مهما يكن حجم الدور أو طبيعة الشخصية التي يؤديها، من شخصية مدحت الزوج المغدور الذي تسقط زوجته في حب غيره في فيلم “أيام في الحلال”
عام 1985، من بطولة نبيلة عبيد ومحمود ياسين، عن قصة الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، وإخراج حسين كمال، إلى شخصية المهندس أحمد الشيخ الزوج الذي يتزوج في الغربة سرا على زوجته المخلصة في مسلسل “قصة الأمس” عام 2008 من بطولته مع الفنانة إلهام شاهين، قصة محمد جلال عبدالقوي وإخراج إنعام محمد علي.
وحتى عندما لعب فهمي شخصية كان طبيعيا أن يكرهها الجمهور العربي، فقد نجح في التعبير عن تفاصيلها الإنسانية في أحد أصعب المواقف التي تمر بها، وهي شخصية أبو داود ضابط المخابرات الإسرائيلي في مسلسل “دموع في عيون وقحة” عام 1980، من بطولة النجم الكبير عادل إمام، قصة الكاتب صالح مرسي وإخراج يحيى العلمي، ففي أحد أهم المشاهد بالمسلسل يُظهر البطل جمعة الشوان كذبا غضبه ممّا جرى في حرب 1973 وانتصار المصريين وانهيار خط بارليف الدفاعي الحصين بكل بساطة أمام القوات المصرية، ليبدو أبو داود (مصطفى فهمي) منكسرا عاجزا عن الرد، ثم تسيل دموعه حزنا، بأداء شديد الصدق معبر بعمق عن نفسية ضابط مخابرات منكسر مهزوم.
سلاسة الأداء
ويصعب بالطبع أن نعرِّج على أغلب الأدوار المهمة التي لعبها مصطفى فهمي، لكن نجاحه في تقديم شخصيات بعينها لا يمكن تفويته أو نسيانه، مهما بدت هذه الشخصيات مغرقة في الأنانية والنفعية والشر، كما في مسلسل “الحب وأشياء أخرى” عام 1986، من بطولة الفنانين ممدوح عبدالعليم وآثار الحكيم، قصة الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة، وإخراج إنعام محمد علي.
وفيه يلعب دور الطبيب عادل، الحالم بتنمية مستشفى والده لجني الأرباح المادية الوفيرة وإن يكن بتحويل الطب إلى تجارة، معتبرا أن فكرة زواجه من الطبيبة هند ابنة صديق والده وشريكه في المستشفى جزء من المشروع والصفقة، لذا لا يتورع عن اقتحام حياتها برغم زواجها من الفنان الموسيقي سامح الذي أحبته، وزرع العقبات في طريق زواجها حتى يفشل، لتأتي إليه هند في النهاية بالفعل، لكنه يخبرها بصلف بأنه لا يمكن أن يقبل فضلات غيره.
◙ الفنان بدأ حياته مصورا سينمائيا ودخل مجال التمثيل دون تخطيط، ليجيد تقديم أدوار الخير والشر معا رغم وسامته
يشعر المشاهد بأنه يكره مصطفى فهمي في أدوار كهذه، لكنه سرعان ما يدرك بعد نزول تتر النهاية في المسلسل أن هذه الكراهية دليل إجادة الفنان تقديم الشخصية، فيظل يكرهها لكن يحبه هو، ويعترف له بأنه لم يدخل عالم الفن من بوابة وسامة الملامح فحسب، إنما سلاسة الأداء القادر على تلبس أيّ شخصية يؤديها سواء كانت خيّرة أم شريرة.
والجميل المؤلم في آن، هو أن الفنان الذي أحبه المصريون ما يزال يطل على الشاشة من خلال أعمال سينمائية حديثة آخرها فيلم “أهل الكهف” من بطولة خالد النبوي عن قصة الكاتب توفيق الحكيم، الذي عُرض في السينما في شهر يونيو الماضي، بالإضافة إلى فيلم “السرب” من بطولة أحمد السقا وشريف منير، قصة عمر عبدالحليم وإخراج أحمد نادر جلال، ويتناول وقائع حقيقية حول تصدي قوات الجيش المصري للجماعات الإرهابية بعد واقعة ذبح 21 مصريا في ليبيا، وتم عرضه في السينما في شهر مايو الماضي ويُعرض حاليا على منصة “واتش إت” المصرية.
وتشير السيرة الذاتية لفهمي إلى انتمائه إلى أسرة أرستقراطية ذات أصول شركسية كانت تمارس العمل السياسي، إذ كان جده محمد باشا فهمي رئيسا لمجلس الشورى، ووالده محمود باشا فهمي سكرتيرا للمجلس نفسه، لكنه اختار في سيرته المهنية الالتجاء إلى سلاح الفن بعيدا عن السياسة، فلم يهتم بها أو يقبل عليها، إنما عبر بما قدمه من شخصيات متنوعة عن حياة الناس ومعاناة النفوس، بينما ظلت حياته الشخصية تعبيرا عن محبة الحياة بضحكة عذبة صافية ونفس رقيقة راقية، لذا جاء خبر رحيله مفاجئا حاملا لمحبيه مشاعر صدمة قاسية.