يعد المهرجان الوطني للفيلم بطنجة منصة رئيسية للاحتفاء بالإنتاج السينمائي المغربي وتقديم المواهب الجديدة والأفلام التي تعكس تطورات السينما الوطنية، غير أن الدورة الرابعة والعشرين من هذا المهرجان أثارت نقاشات واسعة حول المعايير المعتمدة في اختيار الأفلام المتنافسة.
وعلى الرغم من وجود قوانين واضحة تشترط أن تكون الأفلام المعروضة لأول مرة في المهرجان من إنتاج 2024 ولم تعرض سابقًا في مهرجانات دولية أو على منصات رقمية، إلا أن دمج أفلام عالمية حققت نجاحات دولية مع أفلام تُعرض لأول مرة في المهرجان أدى إلى شعور بعدم تكافؤ الفرص بين المشاركين، وهذا التناقض بين ما ينص عليه القانون العام للمهرجانات المصنفة عالميا وما يحدث في الواقع يتطلب طرح تساؤلات منطقية بعيدة عن العلاقات الشخصية والآراء السامة التي تتخذ من القانون والوطنية واجهة لها.
تكافؤ الفرص
إحدى أبرز الإشكاليات التي تواجه المهرجان هي دمج الأفلام التي عرضت بالفعل في مهرجانات دولية وحققت نجاحات كبيرة مع أفلام تُعرض للمرة الأولى، هذا الأمر يخلق حالة من عدم الإنصاف، حيث تتمتع الأفلام الدولية بزخم جماهيري وتقدير نقدي سبق عرضها في المهرجان، ما يمنحها ميزة تنافسية غير عادلة، إذ أن الأفلام التي شاركت في مهرجانات مثل “كان” أو “مراكش” تأتي محملة بتوقعات عالية وصدى إعلامي، ما يجعل التقييم غير متكافئ مقارنة بالأفلام الجديدة التي تسعى لبناء سمعتها من خلال المهرجان.
وهناك من يدافع عن هذه الممارسات بدعوى أن الأفلام المغربية، بغض النظر عن مشاركتها في مهرجانات عالمية، تستحق فرصة للتنافس داخل المهرجان الوطني، حيث يتم التذرع بمفهوم “الوطنية” وأنه من الطبيعي أن يتم الاحتفاء بالأفلام المغربية في أي محفل وطني، سواء كانت هذه الأفلام قد عُرضت دوليًا أم لا، وتم نسيان أن المركز السينمائي المغربي الذي دعم هذه الأفلام يحظى بالأولوية دائما، بينما هذه الحجة تتجاهل المبدأ الأساسي للمهرجانات السينمائية عبر العالم، وهو خلق فرصة عادلة للأفلام الجديدة للتألق دون منافسة غير متكافئة مع الأفلام التي سبق أن حصلت على تقدير دولي.
ويثير هذا الوضع تساؤلات حول دور المركز السينمائي المغربي في دعم الأفلام وتنظيم المهرجان، ففي حين يلعب المركز دورا حيويا في تعزيز صناعة السينما الوطنية، فإن سياسات اختيار الأفلام المتنافسة تحتاج إلى مراجعة لضمان الشفافية والعدالة، خاصة وأن المهرجانات الوطنية هي فرصة لتسليط الضوء على الإنتاج المحلي الذي لم يحصل بعد على فرص دولية، وليس لمنح أفلام سبق لها الانتشار العالمي منصة إضافية.
ويُظهر النقاش حول الدورة الـ24 من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة تحديًا يواجه السينما المغربية في تحقيق التوازن بين الاحتفاء بالإنتاج الوطني وحماية حقوق الأفلام الجديدة التي لم تحظ بفرص العرض الدولي، إذ ينبغي إعادة النظر في القوانين المنظمة لتحديد الأولويات وضمان أن تكون المنافسة شريفة بين جميع المشاركين، بهدف تعزيز السينما المغربية وتقديم فرص متساوية للأعمال الجديدة والمواهب الصاعدة.
◙ المهرجانات الوطنية هي فرصة لتسليط الضوء على الإنتاج المحلي الذي لم يحصل بعد على فرص دولية
وإحدى التبعات السلبية الأخرى لدمج الأفلام التي عُرضت في مهرجانات عالمية مع الأفلام الجديدة هي زعزعة آراء لجنة التحكيم، ما يؤثر على قراراتها في اختيار الفيلم الذي يستحق الفوز فعليًا، فعندما تكون بعض الأفلام قد نالت بالفعل اهتمامًا نقديًا وجماهيريًا في مناسبات دولية، يصبح من الصعب على أعضاء اللجنة تقديم تقييم نزيه، وهذا الوضع يضع ضغوطًا على اللجنة التي قد تميل، ولو بشكل غير مقصود، إلى تفضيل الأفلام ذات الشهرة المسبقة على حساب الأفلام الجديدة التي تحتاج إلى فرصة عادلة للعرض والتقييم. ومن هنا تأتي ضرورة أن تكون جميع الأفلام المعروضة في المهرجان تُعرض لأول مرة، لضمان حيادية التحكيم وإعطاء كل فيلم فرصته الكاملة للتألق دون تأثيرات خارجية مسبقة.
ولضمان عدالة المنافسة وإعطاء كل فيلم فرصته الكاملة للتألق يمكن دمج فقرة خاصة في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة للأفلام المغربية التي شاركت بالفعل في مهرجانات دولية مثل “كان” أو “مراكش” ضمن “بانوراما السينما المغربية”، بحيث تعرض هذه الأفلام خارج إطار المنافسة الرسمية. وهذه الخطوة ستسمح للجمهور المغربي بمشاهدة الأفلام التي حققت نجاحات عالمية، مع الحفاظ على مبدأ تكافؤ الفرص في المسابقة الرسمية للأفلام الجديدة التي تُعرض لأول مرة، حيث أن هذا التمييز بين فقرات العرض سيساهم في تعزيز مصداقية المهرجان ويمنح كل فئة من الأفلام ما تستحقه من اهتمام وتقدير.
الجوائز والجودة
المشكلة التي يعاني منها المهرجان الوطني للفيلم بطنجة لا تقتصر على الأفلام الروائية الطويلة فقط، بل تشمل أيضًا الأفلام القصيرة والوثائقية، وهنا يجب على لجنة التحكيم أن تتحلى بأقصى درجات الصدق والموضوعية في تقييم الأعمال المعروضة.
والجوائز التي قد تكون حصلت عليها بعض الأفلام في مهرجانات دولية لا ينبغي أن تُعتبر معيارًا لجودة هذه الأعمال، إذ إن الكثير من تلك الجوائز قد تُمنح بناءً على معايير خارجية، بما في ذلك التوافق مع توجهات سياسية أو ثقافية معينة، حيث أنّ تدخّل شركات الإنتاج الأجنبية المعروفة بتأثيرها الكبير في كتابة السيناريو يثير تساؤلات حول مدى استقلالية وجودة تلك الأفلام، لذلك يجب أن تستند تقييمات لجنة التحكيم إلى معايير فنية وإبداعية حقيقية تعكس الروح الأصلية للسينما المغربية، وليس إلى الجوائز أو الشهرة التي قد تكون مبنية على أسس تجارية أو سياسية بعيدة عن الفن الحقيقي.
وبعدما كان المهرجان الوطني للفيلم بطنجة يُقام عادةً في الفترة ما بين فبراير ومارس، تقرر تغيير تاريخ الدورات الأخيرة إلى أكتوبر، وهذا التغيير أثار نقاشات حول ضرورة إعادة النظر في بعض المعايير التنظيمية، خصوصا فيما يتعلق بقبول الأفلام التي شاركت سابقاً في مهرجانات دولية، رغم أنها مدعومة من المركز السينمائي المغربي.
ويُعتبر هذا التوجه تحديًا لمبدأ المنافسة العادلة، حيث ينبغي للمهرجان الوطني أن يحظى بنفس القيمة التي تتمتع بها المهرجانات الدولية الكبرى، التي تفرض على الأفلام المشاركة أن تكون معروضة لأول مرة، دون أن تكون قد شاركت في مهرجانات أخرى من قبل، فتحقيق ذلك سيساهم في رفع مستوى التنافسية والاعتراف الدولي بالمهرجان، ويمنح الأفلام الجديدة فرصة عادلة للتألق.
وتتزايد ضجة الجوائز العالمية بين رواد السينما ومحبيها، حيث ينجر الكثيرون وراء صدى هذه الجوائز وما تتيحه من شهرة ونفوذ، لكن يجب أن نتساءل: هل تُعتبر هذه الجوائز معيارًا حقيقيًا للجودة؟ فعلى الرغم من تألق بعض الأعمال الفنية والأدبية في جوائز دولية مثل الأوسكار ونوبل في الأدب والبوليترز في الصحافة، إلا أن الكثير من هذه الجوائز تُمنح استنادًا إلى علاقات الواسطة أو مقابل خدمات معينة، ما يشوه قيمتها الحقيقية.
وفي الكثير من الأحيان يصبح النجاح في هذه الجوائز مُرتبطا بأبعاد سياسية أو تجارية وليس بالضرورة بالجودة الفنية أو الإبداع، بينما يتعين على الجمهور والمختصين أن يعيدوا تقييم مواقفهم تجاه هذه الجوائز، وأن يدركوا أن التقدير الحقيقي للفن يجب أن ينبع من التجربة الشخصية والتفاعل المباشر مع الأعمال الفنية، وليس من صدى الجوائز أو التطبيلات المفرطة التي تُسوق لها.