أعاد حادث تصادم قطارين بمحافظة المنيا جنوب مصر، الأحد، وضع الحكومة في مرمى الانتقادات، واتهامها بترويج نجاحات وهمية حول مشروعات قومية مرتبطة بقطاعات خدمية، في القلب منها منظومة السكك الحديدية التي لا يزال ضحاياها يتساقطون على فترات متقاربة.
وأحرج الحادث الرئيس عبدالفتاح السيسي نفسه، كونه يتمسك بالمشروعات التنموية في قطاعات ضخمة، ثم تقع حوادث تشوه ما تحقق، فقد افتتح محطة سكك حديد جنوب مصر بعد تطويرها، السبت، قبل يوم واحد على تصادم القطارين، ما طرح تساؤلات حول الفائدة من إنفاق الملايين من الدولارات على تطوير مرفق لا يزال يعاني من الخلل.
وأوقع الحادث حالة وفاة وعشرين إصابة، بينهم ثلاثة من جنسيات أجنبية، فيما قرر كامل الوزير نائب رئيس الوزراء وزير النقل والصناعة إحالة جميع المسؤولين المتورطين إلى النيابة العامة، لاحتواء غضب المصريين ضد تكرار حوادث القطارات.
وتواجه الحكومة المصرية انتقادات نتيجة توسعها في الاقتراض الخارجي بهدف استكمال مشروعات قومية كبرى، لكن الرئيس السيسي أكد تمسكه بالسير على نفس الوتيرة مهما كانت الضغوط الاقتصادية، وتصاعد المطالب بإعادة تحديد الأولويات والتوجه نحو التعامل مع أزمات أكثر ارتباطا بالظروف المعيشية للمصريين.
وقال السيسي، خلال افتتاح مشروعات تطوير مرفق سكك حديد جنوب مصر، “أؤكد أننا مُصرون على استكمال المشروعات القومية، مثل تطوير الريف المصري، وما يرتبط به من مشروعات أخرى، رغم الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة، فقد لا تسير الأمور بنفس المعدلات التي كنا نعمل بها، ولكن سوف نستمر دون توقف”.
وأعاد موقف السيسي النقاش حول الجدوى من استمرار توجيه موارد مالية ضخمة للإنفاق على مشروعات قومية في ظل أزمة اقتصادية عالمية لها ارتدادات محلية أدت إلى ارتفاع نسبة التضخم وتدهور مستوى المعيشة وزيادة معدلات الفقر والقفزات المتتالية في الأسعار.
ومع كل حادث أو مشكلة مرتبطة بمرفق حيوي، تثار تساؤلات من معارضين حول ما إذا كان من الأفضل أن تُلقي الدولة بثقلها لتبني سياسات تخفف الأزمات الواقعة على كاهل المواطنين أم تواصل مشروعات تتخذ منها السلطة عنوانا سياسيا لها، للإيحاء بأنها صنعت إنجازات لم تحدث في تاريخ البلاد.
وبدت الحكومة كأنها تسير عكس اتجاه تصوراتها المعلنة، حيث اعتادت على مطالبة المصريين بالصبر وتحمل الأزمات وتبنّي إجراءات تقشفية، في حين يتم تواصل إنفاق مبالغ مالية ضخمة على قطاعات يمكن، في نظرهم، أن تؤجل إلى حين عبور الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، وهي إشكالية توحي بالتضارب في أولويات الحكومة.
وقال إكرام بدرالدين رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة إن الحادث الأخير لا ينفي وجود تحسن في منظومة السكك الحديدية، ولا يقلل من النجاحات التي تحققت في القطاع، ومن غير المنطقي أن تتوقف الحكومة عن استكمال مشروعات قومية بسبب ثغرة، أو اصطياد في الماء العكر من جانب خصوم سياسيين.
وأضاف بدرالدين في تصريحات لـ”العرب” أن الرئيس السيسي أراد من خلال التمسك بتنفيذ المشروعات القومية العملاقة، أن يبعث برسائل مفادها أن الدولة تقف على أرضية صلبة ولديها اقتصاد جيد، والحكومة قادرة على الخروج من هذا النفق بدليل أنها ماضية في تنفيذ خططها التنموية.
ويظل التحدي الأكبر أن الشريحة التي تستهدفها الحكومة من المشروعات التنموية تعتقد أنها لم تستفد بشكل كاف من الحركة التنموية المتناثرة في ربوع مصر، إلى درجة أن هناك من يرون في ذلك استنزافا لموارد الدولة.
ويبدو الإصرار على المضي في الشق التنموي وتجاهل تنفيذ دعوات التقشف محاولة من الحكومة لتقديم صورة مغايرة عن الواقع، وأن الأوضاع الاقتصادية ليست سيئة بالقدر الذي يجعلها توقف حركة التنمية.
ولم تفلح الإجراءات التي اتخذتها الحكومة مؤخرا، باتخاذ إجراءات حماية اجتماعية، في وقف الجدل المرتبط بخططها التنموية وتجميد المشروعات الكبرى، ما وضعها في مأزق، خاصة أنها مهدت الرأي العام للتقشف لتجاوز التقلبات الإقليمية، ثم تصر على استمرار المشروعات الكبرى.
وترك الاختلاف بين خطاب الحكومة عن التقشف وتحركاتها للإنفاق ببذخ على مشروعات يُمكن تأجيلها، تساؤلات عند بعض المصريين من نوعية: هل الدولة بالفعل لديها أزمة وقادمة على تحديات صعبة، أم أن الحكومة تخفي شيئا وتتعمد وضع الناس طوال الوقت تحت الضغط؟
إخفاء الحقائق عن الناس لمجرد اقتناع الحكومة برؤيتها الصائبة يخلق ممانعات شعبية لكل توجه تنموي له تبعات اقتصادية تزيد الأعباء على المواطنين
وبدا حديث السيسي، السبت، حول خبايا قرارات وسياسات الدولة، ردا على تلك التساؤلات، حيث قال “ليس مهما أن يعرف الناس كل شيء عن أبعاد بعض التوجهات والقرارات، والزمن سيرد ويكشف الحقائق مستقبلا. الحكومة لديها ثوابت في إدارة العمل، والهدف بناء دولة قوية قادرة على النمو التجاري”.
وردا على محاولة البعض فهم كل شيء والبحث عن إجابات لتوجهات الدولة، قال إن الرئيس الراحل محمد أنور السادات عندما اتخاذ قرار دخول الحرب (حرب أكتوبر) كان جميع خصومه منتصرين، لكن التاريخ أنصفه، وهزم كل خصومه وهو غير موجود.. لذلك، ليس شرطا أن يفهم المواطنون كل شيء عن أهمية الوقت والقرار.
ويشير متابعون إلى أن إخفاء الحقائق عن الناس لمجرد اقتناع الحكومة برؤيتها الصائبة يخلق ممانعات شعبية لكل توجه تنموي له تبعات اقتصادية تزيد الأعباء على المواطنين، وما لم تستطع أن تقنع الشارع بجدوى سياساتها وتشارك الجميع معها سوف يظل الحديث عن الإنجازات غير عملي.
وتدافع بعض الأصوات عن الحكومة بأن رؤيتها منطقية في ضرورة استمرار المشروعات القومية التي بدأتها، لأنها تستهدف بالفعل تحسين جودة الحياة ولو على المدى البعيد، وليس دور الحكومة أن توفر فقط المأكل والمشرب للناس، وتتغافل عن بناء دولة كانت هشة، وتحتاج إلى التنمية والعمل دون توقف.
ويبني هؤلاء رؤيتهم على أن أغلب الاستثمارات التي تم ضخها في المشاريع القومية، جرى تنفيذها بمشاركة القطاع الخاص المحلي، ما وفّر الكثير من فرص العمل وعزز وتيرة النمو الاقتصادي وخفض معدلات البطالة وحرّك المياه الراكدة في المصانع والشركات المحلية، وساهم في جلب استثمارات أجنبية معقولة.
ويُحسب على الحكومة أنها لا تُظهر للمواطنين جديتها في تنفيذ مشاريع ضخمة تستهدف من خلالها تحسين الوضعية الاقتصادية، مثل المصانع والشركات التي تُغني الناس والدولة عن الاستيراد وتقود إلى خفض أسعار السلع وتساهم في رفع المستوى المعيشي للمصريين الذين يقبعون تحت وطأة مشقات اقتصادية متزايدة.