أصدرت دار سيغرس الباريسية بالتعاون مع منشورات متحف اللوفر كتابا شعريا جديدا لأدونيس تحت عنوان “اللوفر – فضاء لأبجدية المستقبل”، في طبعة مزدوجة باللغتين العربية والفرنسية، جاءت على شكل لوحات متناظرة تجمع بين الخط العربي والحروف اللاتينية، في تناغم لغوي وشعري واستيتيقي ذي صبغة فنية فكرية عالية تجمع بين الشعر والفلسفة والإبداع المحض وتاريخ الفنون باعتباره هنا فعلا معرفيا وأركيولوجيا.
فاتحة من عشتار
هذا هو العبقري أدونيس، في سن الرابعة والتسعين، يحل ضيفا على متحف اللوفر، تحديدا على قسم الفنون المشرقية القديمة، باحثا، مفكرا، مغامرا بين الحجارة والألوان، بين عظمة الماضي وشكوك الحاضر وربما غياب المستقبل.
في سبع لوحات كبيرة، مرقمة تتضمن لويحات شعرية أيقونية، يتحاور صاحب “مهيار الدمشقي” مع القديم لفهم الحديث سعيا إلى ابتكار المستقبل.
ليست هذه التقنية في الكتابة جديدة على أدونيس الذي ابتكر فنا شعريا فريدا من نوعه يتمثل في كتابة القصيدة على طريقة البحث الخاصة بعلماء الآثار، وهي طريقة استخدمها من قبل في نصوص بديعة ضاربة في الحداثة مثل “كونشيرتو القدس” سنة 2012 و”زوكالو” سنة 2014، حيث يتحاور الشاعر العربي الكوني مع حضارة المكسيكيين القدامى.
وهو يهدي قصيدته الواحدة الفريدة “إلى نساء اللوفر ورجاله”، يوجه أدونيس هذه “الرسالة” معتبرا إياها “فاتحة من عشتار إلى اللوفر”:
الشاعر يؤسس لنظرة أنثوية تنقذ الإنسان من الوهم والعنف والقتل والكراهية التي تفرغ الذات من طاقة الحب والحياة
“(…) أتخيل عندما زاركَ جلجامش، زيارته الأولى، كيف كان التاريخ يغسل قدميه، عند عتباتكَ، بماء الآلهة. وكيف كان يودع الريح التي أخذت هذا العاشق الكبير، بأحضانها، لكي تقدمه إليكَ في ثوبٍ سومري من كتانِ المخيلة، وحرير الحَجر.
ليتني كنتُ إلى جانبه، تلك اللحظة، برفقة إنهيدوانا، شاعرة الحب الأولى، لكي ننتزعَ من ثنايا ثيابهِ ومن خصلات شعره، تلك البقايا من ذرات الترابِ التي لا تريد أن تترك مكانها، وليست إلا رسائلَ أخرى من تراب الأرض التي أحبتها، والذي تمزجه بقصائدها، خصوصا تلك القصيدة العاشقة التي كتبتها عنه، والتي لا تزال حتى الآن، تواصل كتابتها. إنها قصيدتُها غير المنتهية، والتي لا نهاية لها.
(…) أعرف أن أصدقاء كثيرين رافقوه. لا تزال قبورهم سابحة في فضاء بغداد – في الفضاء… بعضها تحول إلى نجوم، وبعضها آثر أن يكون شهبا، وبعضها اختار أن ينتمي إلى سُلالة الغيوم، وبعضها الآخر القليل لايزال يحيا متنقلا بين المقابر الخاصة بالأشعة التي تتحول دون انقطاع، لكن دون أن تنطفئ.
(…) في الطريق التي سلكها جلجامش من بغداد إلى باريس، كانت بقرات وحشية صديقة لإنكيدو ترعى على جانبيها. وكانت الطريق جسرا في الفضاء تحرسه كواكبُ اختارها دجلة والفرات وصديقاهما النيلُ والبحر المتوسطُ الأبيض.
(…) إنها كواكبُ لا تَلِدُ ولا توُلَد.
تزداد طفولةً بقدر ما تزداد شيخوخةً، كأنها تنقض القوانين التي
تجهل الشعر، ولا تحب الحب”.
كل شيء واضح
هكذا يتحدث أدونيس، لكنه ليس زرادشت الألماني نيتشه ولا أبا هريرة المسعدي التونسي. هو أدونيس، صوت شعري يسكن جسدا آدميا ضاربا في الآدمية، متجولا في أروقة متحف اللوفر بين الأصنام والألواح والأسماء التي تجد عنده، في فمه وتحت قلمه، طريقا إلى آذاننا وعيوننا ووجداننا وعقولنا على
حد السواء.
كيف لا وهو يُخرجُ إلينا إنهيدوانا من غياهب الغياب. يا له من اسم جميل، كان يكون أكثر سحرا لو لم يكن حقيقيا! وفي الاثناء، بين القصيدة والأركيولوجيا،
أي بين سحر الخيال الشعري وواقع التاريخ الجميل والرهيب في نفس الوقت، نُصغي إلى صوت الشاعر منشدا ما يلي، عن الكون والحب والحياة:
“إنه اللوفر – بيتٌ يَحتضن جذور التكوين.
أتجول فيه، أتنورُ، أستقصي،
أرى إلى التاريخ يتموج في جدرانه.
فجأةً، أتذكر جويس: “التاريخ كابوسٌ أحاول أن أستيقظ منه”.
وها هي إنهيدوانا توقظني، –
في البدء كان المثنى،
وكان الحب”.
في سبع لوحات كبيرة مرقمة تتضمن لويحات شعرية أيقونية، يتحاور أدونيس مع القديم لفهم الحديث سعيا لابتكار المستقبل
بين المقطعين تضارب وتواصل، فكلمات الكاتب الإيرلندي الشهير جيمس جويس تلعبُ هنا دورا إشكاليا، يتمثل أساسا في تفعيل الفرق الكامن بين ما يسميه المحللون النفسيون مبدأ الواقع في تصادمه
مع مبدأ اللذة.
“التاريخ كابوس”، عبارة تتضارب مع صورة إنهيدوانا الموقظة بمعنى أنها تهب اليقظة والوعي بعيدا عن خيال الوهم، كما أنها أنثى تُمثلُ الحياة على عكس التاريخ وهو مذكر أرعن. وبهذه الطريقة، يؤسس الشاعر أدونيس لنظرة أنثوية متجذرة تنقذ الإنسان من الوهم والعنف والقتل والكراهية التي تؤدي جميعا إلى إفراغ الذات من طاقة الحب والحياة.
لهذا السبب، نُفضلُ صوت أدونيس على غيره من الأصوات. في الحقيقة، لا نبوة فارغة المحتوى عنده، لا طلاسم، ولا ترهات. كل شيء واضح، شفاف، كما الحقيقة في زمن الكذب والخداع وتزييف الحقائق والوقائع، كما نرى ونقرأ كل يوم:
“وها نحن نتابع دعوة القادة والسادة في العالم،
للحفل المقبل الذي نقيمه، احتفاءً بما أنجزناه، وتبشيرا بما
نخطط له.
لكن، رفضَ، حتى الآن هذه الدعوة هوميروس وأوفيد،
رفضها كذلك بيتهوفن ونيتشه وغوته،
المعري وابن عربي وامرؤ القيس.
ومزق بطاقة الدعوة أينشتاين،
وكان سبينوزا، اقتداءً بغاليليه وديكارت،
قد نبذ مسبقا تلك العُلومَ كُلها”.
هذه الأسماء، كل هذه الأسماء مراهنة على تأصيل الكيان، تحديدا على إعادة بناء إنسانية مفقودة أو مريضة. فإن انتهى النشيد الأول من اللوحة الخامسة على هذا النحو، فذلك للشروع قدما في التأسيس: عبر أسماء وجب الجنوح إليها لا لاعتمادها بصفتها حقائق نهائية أو أزلية، بل لأنها طرق وثنايا خطيرة تفتح على عوالم يكون فيها السؤال بمثابة الخطر.
“تكاد الأفكار اليوم أن تكون حِراباً
تكاد الأجسام أن تكون ولائم سماوية.
وها هي المدن تقتفي آثارَ دروبٍ ترسمها يدُ الريح
بين الغبار والكواكب، وتصفق لها هياكل عَظْمية مبثوثة في
الهواء، احتفاءً بالفراديس!”.
تكوين جديد
أدونيس عبر الرموز يرغب في تكوين لغة جديدة لغة حديثة تتأقلم مع الزمن ومع الأماكن التي تعيش وتتحرك فيها
يا للعجب، فالشاعر يتعجب من هول ما يرى. كما أنه الذي وضع القوسين والنقاط الثلاث داخلهما، كما أنه من يستعمل المطة الطويلة (–) وغيرها من المكونات أو المواد الكتابية، وكأنه يرغب من خلالها في تكوين لغة جديدة، لغة حديثة تتأقلم
مع الزمن ومع الأماكن التي تعيش وتتحرك فيها.
وبما أن اللوفر يتكلم، كما جعل أدونيس في قصائد قديمة مدنا وشوارع تتكلم، مثل نيويورك والقدس والجامع الكبير وكاتدرائية نوتردام في باريس وغيرها حيث، على سبيل المثال، دعا أدونيس أبا نواس إلى عاصمة الأنوار، جاعلا منه توأما لصاحب “أزهار الشر” شارل بودلير، فعلى الشاعر أن يُصغي
إليه وأن يُترجم لغته الدفينة:
قال اللوفر:
في آفاق دجلة والفرات والنيلِ،
شمسٌ لا تشرق إلا لابسةً ثالوثها المؤسس:
فضاء الأبجدية، طين الفرات ودجلة، ماء النيل.
ثالوثٌ يعلمنا كيف يقرأ الغيمُ العشبَ،
وكيف يحتفي الزهرُ بالثياب التي ينسجها له الهواء، وتخيطها
الشمس.
وها أنا أسمعُ الآن صوتَ الأسطورة:
كانت الأهرام، ليلاً، تقص على الطين تاريخ الماء في
النيل،
وكانت نفرتيتي تقيم مأدبةً للنيلوفر واللوتسِ وبقية النباتات
التي تنحدر من سلالة الفن.
إنه اللوفر بيت للانهايات المعنى،
بيت لإماتة الموت.
هكذا تنتهي قصيدة “اللوفر – فضاء لأبجدية المستقبل”. لكن، هل تنتهي فعلا؟ كل شيء يحيلنا إلى بداية وربما إلى تكوين جديد. كل شيء يدفع بنا نحو نقطة انطلاق لم نرها من قبل رغما عن أنف الموت وهو الحقيقة الأشد صلابة، حتى إن الشاعر يقول “وأرى إلى الموت كيف يتقنع بالحياة،/ وإلى الحياة كيف تتقنع بالموت”.
لكن، بقطع النظر عما هو بديهي، هل لنا أن نرضى بالأمر المقضي وأن نعيش من دون إرادة؟ بعبارة أخرى، هل ندير ظهورنا إلى الثقافة والمعرفة الكامنة في فضاء كهذا الذي يوجد في باريس تحت اسم متحف اللوفر، حيث لا تزال تتنفس وتحيا أمهات الآثار لما نسميه بكل عنجهية كاذبة كنوز وطننا العربي الإسلامي المشترك؟
إن كان الأمر كذلك، فلماذا هي هناك لا في مكان آخر؟
ليس هذا سؤالا سياسيا أو أيديولوجيا بقدر ما هو سؤال شعري وفني. ربما يجيبنا أدونيس في أحد مقاطع القصيدة وهو المقطع الوحيد الذي يذكر فيه اسمه الشعري. لن يكون الجواب مهما، اللذة في السؤال والبحث والاكتشاف، كما هي في التجوال مع أدونيس في متحف اللوفر…
بخورٌ يتصاعَدُ من الترابِ والطين،
يمتزج عِطرُه بفضاءات الشرق والغرب،
أجسامُ آلهة عُشاق تطفو على وجه البحر،
تحف بها مواكبُ الأبجدية.
أهو أدونيس يتقمص شجرةَ صفصافٍ
ويوحد بين أهدابهِ وأغصانها الباكية!
ما يزرعه الحب تحصده الأبدية، تقول عشتار.
أصغوا،
عزفٌ مُفرَدٌ على قيثار الكونِ، آتياً من عين غزالٍ،
في أحضان الأردن،
يُشرقُ في مجاري دجلة والفرات،
مغرباً في مفاوز عوليس والموج،
أصغوا،
تسعة آلاف سنة، سفر تكوين أول،
الفاتحة الأولى في كتاب الإبداع.
ولد أدونيس في 1930 بقرية قصابين في سوريا. تبنى اسم أدونيس تيمنا بأسطورة أدونيس الفينيقية، وبذلك خرج عن تقاليد التسمية العربية منذ عام 1948. أصدر مع يوسف الخال مجلة “شعر” عام 1975. ثم أصدر مجلة “مواقف” بين عامي 1969 و1994. شغل أدونيس خطة أستاذ زائر في جامعات ومراكز للبحث في فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة وألمانيا. كما نال عددا من الجوائز العالمية وألقاب التكريم وتُرجمت أعماله إلى لغات عديدة.