يبدو أن اللقاء المرتقب للرئيس السوري بشار الأسد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان بات الشغل الشاغل وحديث الشارع في الآونة الأخيرة، إذ بات الكثير من السوريين ينتظرون عودة العلاقات من جديد وما يتبعها من تغييرات لعلها تنعكس إيجابيا على المواطن السوري الذي أرهقته سنوات الحرب الطوال، والذي ما فتئ لسان حاله يقول “أنا وليأت من بعدي الطوفان، أو إذا متُّ ظمآن فلا نزل المطر”.
هذا دلالة واضحة على ما يلقاه السوريون من معاناة جعلتهم في منأى عن التفكير بما يجري حولهم، ولعلنا نلتمس للسوريين العذر في ذلك، فما تعرضوا له يشبه إلى حد كبير ما تتعرض له غزة اليوم. إذ ألقت الضغوط الاقتصادية بثقلها على كاهل السوريين، فقد قدرت مفوضية الأمم المتحدة أن غالبية السوريين بحاجة إلى مساعدات إنسانية أكثر من أي وقت مضى.
هذه الضغوط لم يفلت من شراكها أحد حتى الفنانون الذين هم في نظر الكثيرين من الطبقة المخملية، فقد ساءت بهم الحال فإذا بهم يشكون الفقر والتهميش في غمرة ابتعاد المنتجين السوريين عن إسناد أدوار فنية لهم تضمن لهم البقاء والاستمرارية، ومن ذلك صورة للفنان السوري بسام دكاك تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة وهو يبيع الفطائر في حديقة تشرين بالعاصمة السورية دمشق، إذ تفاجأ زوار معرض الزهور بوجود بسام دكاك وهو يبيع الفطائر والمعجنات على إحدى البسطات (العربات).
وذكر أحد زوار المعرض أنه شاهد دكاك وسأله مستغربا عن حاجته إلى بيع الفطائر، ليرد قائلا “الشغل مو عيب يا ابني.. مافي شغل.. مو أحسن ما مد إيدي لحدا”.
وأضاف في تعليق له “في هذا الوقت الواحد لازم يعمل كلشي حتى يأمن مصاريف البيت.. أريد أن أسأل سؤالا، هل هذا الموضوع معيب في حال قام به فنان؟ بالتأكيد لا.. العمل ليس معيبا أبدا”.
الكثير من الفنانين السوريين يأملون في حصول تقارب بين دمشق وأنقرة من شأنه أن يكسر الحظر السوري عن الدراما التركية
وقد كشف الكثير من الفنانين السوريين عن امتعاضهم من سوء الواقع، فالكثير من هؤلاء النجوم لم يعودوا حاضرين في المشهد الدرامي نتيجة تهميشهم من قبل شركات الإنتاج.
الفنان السوري هاني شاهين، المشهور بشخصية “العريف نوري” في مسلسل “باب الحارة” وهو أحد نجوم مسلسل مرايا الشهير، ظهر في أحد اللقاءات مشيرا إلى أنّه يعاني من أوضاع مادية صعبة. وقال “والله العظيم، أكثر من 20 يوما عايشين على الزعتر والزيت الأبيض، والفواكه ما بعرفها من سنة”.
وقد رأينا الكثير من هؤلاء الفنانين في محاولة للتخفيف من وطأة هذا الواقع القاسي يتوجهون بقوة نحو مواقع تيك توك والبيغو لايف والبوبو لايف، إذ أصبح من المعتاد رؤية فنان سوري في بث مباشر على هذه البرامج بل وصل بهم الأمر إلى دعوة متابعيهم لدعمهم من قبيل “دعمونا مشان الله مندعيلكم أو كبّس”، وغيرها من العبارات التي اعتبرها كثيرون بمثابة التسول الافتراضي. وفي هذا دلالة قوية على أن زمن “البحبوحة” المادية قد انتهى بالنسبة لهذه الفئة.
وقد لجأ كثيرون إلى شركات إنتاج الدراما المشتركة في بيروت، فيما لجأ آخرون إلى عالم الدراما التجارية، ونعني بها الدراما التركية المعربة، ومنهم نجوم الصف الأول في الدراما السورية. فقد وجد هؤلاء أن الأجور التي يتقاضونها في إسطنبول أكبر بكثير مما تقدمه شركات الإنتاج السورية.
وصرح الممثل السوري أيمن رضا بعد الانتهاء من تصوير مسلسل “لعبة حب” قائلا “لاموني زملائي لماذا اشتغلت بمسلسل معرّب؟ لك على هل مسلسل شفت الخير، ركبت سيارة بعد ما طول عمري كنت أركب موتوسيكل وسرق في الآخر. وبيتي بحارة شعبية ما قدرت اشتري بيت مرتب طول سنين شغلي لقلة الأجر وحتى أحيانا كثيرة المنتج ما كان يدفع باقي أتعابي. مسلسلين تركيّة معربّة تانيين وعد مني لأسكن في المالكي، وحتى إذا بدهم اشتغل بمسلسل تركي جاهز أتعلم اللغة بأسبوع”.
الكثير من الفنانين السوريين يتجهون إلى الدراما التركية لاسيما بعد قرار "أم.بي.سي" نقل تصوير أعمالها المعربة إلى دمشق
وبمعزل عما يجري في كواليس السياسية، لا يخفي كثيرون أملهم بعودة العلاقات السورية – التركية التي تُعتبر في نظر الكثيرين بوابة الخروج من الأزمة، والتي يعقبها رفع القيود عن التجارة والرحلات الجوية وعرض المسلسلات التلفزيونية، مع وقف التغطية الإعلامية السلبية المتبادلة أيضا. ولطالما اعتبرت تركيا حليفا اقتصاديا وسياسيا أساسيا لسوريا.
فهل يعد هذا اللقاء بين الأسد وأردوغان انتهاء فترة من القطيعة التي اتسمت بالعداء المعلن، والذي وصل إلى حد حظر المنتج التركي ورفض تواجده على التراب السوري؟
فقد سبق وصادق مجلس الشعب السوري على قانون يمنع ويحظر على الفنانين السوريين دوبلاج المسلسلات التركية، ويجرم هذا العمل تحت طائلة المسؤولية، ويعرض فاعله لعقوبة الطرد من نقابة الفنانين السوريين، في محاولة من النظام السوري لمحاصرة الدراما التركية وإبعادها عن الساحة العربية، التي تشهد إقبالا واسعا عليها.
وقد رأينا أحد أعضاء هذا المجلس وهو أحمد شلاش، يكتب على الصفحة المنسوبة له في فيسبوك “يلي بدو يبيع مسلسلات تركية يبيع بأرمينيا أو أذربيجان، مو عنا عمي.. كرتن عنا انحرق، وخلي الأتراك يقلعوا شوكن بإيدن.. تخيلوا معي الكساد الدرامي للمسلسلات التركية، في عالمنا العربي بعد هذه المبادرة.. أحبتي للحرب ألوان عدة”.
وفي المقابل كان هناك توجه نحو الدراما الإيرانية المدبلجة، والتي يساهم في ترويجها “حزب الله” اللبناني، ويبثها على قناته، وقد رأى الكثير من النقاد والفنانين استحالة نشر الأعمال الإيرانية في الوسط العربي الذي يبدو غير مرحب بها. وقد أثبتت هذه المهمة استحالتها، إذ لم تستطع هذه الدراما الإيرانية إقناع الجمهور العربي بمشاهدتها والتفاعل معها ولاسيما أنها تنطوي على الكثير من التجريح والنيل من معتقدات المشاهد العربي، إذ تتبنى هذه الأعمال الرواية الإيرانية للموروث الإسلامي التي تتناقض مع الرواية العربية الإسلامية.
الكثير من النجوم السوريين لم يعودوا حاضرين في المشهد الدرامي نتيجة تهميشهم من قبل شركات الإنتاج
وأمام هذا الواقع الجديد والذي يفرض نفسه بقوة، ثمة تساؤلات كثيرة منها وأهمها: كيف يقرأ بعض الكتّاب والممثلين السوريين هذه الدراما التي يبدو الطريق ممهدا لها في سوريا فيما إذا حدث تقارب سوري – تركي كما حدث إبان التقارب السعودي – التركي من انفتاح على الأتراك وتناسي حالة العداء ورفع الحظر عن الدراما التركية؟
بداية، لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من الفنانين والكتاب والنقاد السوريين أبدوا اعتراضهم خوض غمار تجربة الدبلجة بل رأوا فيها عيبا ينال من قدر الفنان السوري وتاريخه المهني، ومنهم الفنان قصي خولي الذي هاجـم الأعمال التركية المعربة موضحا أنها بلا قيمة وبلا هدف.
كما أيده في هذا الرأي يامن الحجلي، ففي حديث صريح ضمن برنامج “عندي سؤال” من تقديم محمد قيس عبر قناة “المشهد” على يوتيوب، تناول الفنان يامن الحجلي نجاحه في مسلسل “ولاد بديعة”، وانتقد الأعمال التركية المُعربة واصفا إياها بأنها لا تعبّر عن واقع الحياة التي يعيشها المواطن العربي.
فيما أعلنت كاتبة مسلسل “أشواك ناعمة” رانيا بيطار منذ أيام خبر اعتزالها من خلال منشور نشرته عبر حسابها عنونته بـ”وداعا قلمي” كتبت فيه “لن أسرق فكرة عمل تركي أو كوري أو مكسيكي لأرضي شركات الإنتاج، لن أكتب عن الخيانة الفجة والعلاقات المحرمة، أحب المرأة العربية ولن أقبل أن أظهرها فقط كجـسد جميل مغـر رخيص دون عقل دون هدف.. هي أمي، أختي وحبيبتي.. هي أنا.. فكيف لي أن أشوهها بقلمي. أنا أعترف بالهزيمة أمام الدراما الحالية لكنها هزيمة شموخ.. لن أكتب إلا ما يشبهني”.
وثمة في رأي الكاتبة مفارقة غريبة وهي أن أبطال المسلسل التركي المعرب “لعبة حب” الذي يعرض اليوم على قنوات “أم.بي.سي” وهم معتصم النهار وأيمن عبدالسلام وحازم زيدان كانوا قد بدؤوا مشوارهم الفني من خلال مسلسل “أشواك ناعمة”.
والحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إخفاؤها هي أن الكثير من الفنانين السوريين قد حسموا أمرهم بالتوجه إلى الدراما التركية ولاسيما بعد قرار شبكة “أم.بي.سي” نقل تصوير أعمالها المعربة من تركيا إلى دمشق بعد عراقيل واجهتها في تركيا، على أن يكون مسلسل “إيزل” الذي سيلعب بطولته باسل خياط ومجموعة نجوم سيُعلن عنهم قريبا، أول تلك المشاريع التي تدور كاميراتها في سوريا، وتعتبر هذه الخطوة داعما قويا للتخفيف من تبعات عقوبات “قانون قيصر” المفروضة على النظام السوري.
لذلك يأمل الكثير من الفنانين السوريين في تقارب بين دمشق وأنقرة من شأنه أن يكسر الحظر السوري عن الدراما التركية، وأن يفسح المجال أمامهم للعمل في سوق الدراما التركية التي باتت مصدر رزق الكثيرين، وتعتاش من عائداته الكثير من العائلات السورية وسط الإقبال الجماهيري العربي على هذه الأعمال ووسط احتكار الممثل السوري لها من خلال لهجته التي ساهمت في وصوله بسرعة إلى المشاهد العربي.