حين تعرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لمحاولة اغتيال الشهر الماضي، افترض كثيرون أن مطلق الرصاص ديمقراطي أو يساري،
ولم تكن تلك الفرضية مستغربة، بل شكلت أمرا طبيعيا في ظل كراهية الديمقراطيين لترامب وانزعاجهم من احتمال عودته للبيت الأبيض.
ولسنوات، كان الخبراء والسياسيون الأمريكيون قلقين من أن يدفع الاستقطاب الحزبي المتزايد إلى ارتفاع العنف السياسي، وفق مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية التي أشارت إلى أن مطلق النار كان جمهوريا مسجلا لكن دوافعه غير واضحة.
وقالت المجلة إن هذا الشاب البالغ من العمر 20 عاما نشأ في بلد يدعو فيه زعماء اليمين إلى العنف، فعاش ثقافة وطنية أصبحت أكثر تقبلاً للهجمات السياسية.
وأضافت، أن الخطابة والثقافة والائتلاف الجمهوري العدواني هي الأمور التي تشجع العنف وتدفع البلاد إلى حافة الهاوية، ورغم أن عددا قليلا جدًا من الأمريكيين قد يطلقون النار على مرشح رئاسي، إلا أن آراء المواطنين حول استخدام العنف مهمة.
دوامة العنف
في تقرير لها، أوضحت "فورين أفيرز" أن دراسة استطلاعات الرأي حول توجهات الجمهور الأمريكي بشأن العنف السياسي منذ 2017 تكشف عن ارتفاع كبير في نسبة الأمريكيين الذين يعتقدون أن الانتقام العنيف مبرر إذا ارتكب خصومهم السياسيون أعمال عنف.
وأغلبية ضئيلة فقط من الأمريكيين الذين ينتمون إلى حزب سياسي يعتقدون الآن أن كل ما يقوم به شخص ما من أعمال إرهابية سياسية من شأنه أن يؤدي إلى أعمال انتقامية.
ويشير التقرير إلى أن العامل الأكثر أهمية الذي يقلل من دعم الأمريكيين للعنف السياسي هو وجود زعامة حزبية مسؤولة وهو ما يعني انخفاض الخطاب العنيف لقادرة الأحزاب وارتفاع الرسائل المناهضة للعنف.
ورغم تزايد أن الدعم الشعبي للعنف السياسي عبر الحزبين، إلا أن الجمهوريين أكثر ميلاً إلى ترجمة هذا الشعور إلى عمل عنيف وبدون التحول في خطاب زعماء الحزب، فإن حادثة مثل محاولة الاغتيال قد تتكرر.
لمحة تاريخية
غرقت الولايات المتحدة في العنف السياسي منذ تأسيسها حيث وُلدت من حرب ثورية، وتعود الصراعات الداخلية بين المتعصبين العنصريين والدينيين وحركات التحرير المعارضة إلى أواخر القرن الـ18.
وتشمل هذه الصراعات الحروب الوحشية بين الأمريكيين الأصليين والحكومة الأمريكية، وانتفاضات الأمريكيين السود المستعبدين، والدمار أثناء الحرب الأهلية، والعنف أثناء إعادة الإعمار، والهجمات أثناء عصر الحقوق المدنية، وانتفاضات السود في المناطق الحضرية، والعنف المستمر ضد السود من قبل الشرطة.
كما حفزت القومية المسيحية العنف السياسي، مثل عمليات قتل المورمون في القرن الـ19 وجهود حرمان الكاثوليك واليهود من حقهم في التصويت والعنف المناهض للنقابات في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20.
وتزايد العنف السياسي والاضطرابات الاجتماعية في الستينيات وأوائل السبعينيات مع مستويات تاريخية من الاحتجاجات والاغتيالات في ظل تحدي الحركات الرامية إلى توسيع الحقوق للتسلسلات الهرمية الاجتماعية التقليدية.
وفي الفترة ما بين نوفمبر/تشرين الثاني 2017 ويونيو/حزيران 2024، وبالشراكة مع شركة استطلاعات الرأي "يوغوف"، أجرت "فورين أفيرز" أكثر من 12 استطلاعا حول آراء الأمريكيين بشأن العنف السياسي.
وكان أحد الأسئلة المتكررة: "إلى أي مدى تشعر أن استخدام حزبك السياسي للعنف في تعزيز أهدافه السياسية هذه الأيام مبرر؟" وعلى سبيل المثال قال أقل من 20% في أكتوبر/تشرين الأول 2022، إن العنف يمكن تبريره.
ووجدت الاستطلاعات أن أنصار الحزبيين كانوا أكثر عرضة بمرتين لتأييد العنف السياسي إذا تم تأطيره على أنه انتقام لعنف سابق ارتكبه أشخاص ينتمون إلى الحزب المعارض.
وتزايد هذا الدعم للعنف الانتقامي بشكل حاد ففي أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حيث اتفق 39% من الديمقراطيين و48% من الجمهوريين على أن العنف السياسي قد يكون مبررا إذا كان الحزب المعارض هو الذي بدأ العنف.
وفي زيادة صارخة، كشف استطلاع أجري في يونيو/حزيران 2024، عن اتفاق 58% من الديمقراطيين و60% من الجمهوريين على أن العنف يمكن تبريره إذا بدأ الحزب الآخر العنف أولا.
أسباب معقدة
ربط العديد من المحللين بين الدعم المتزايد للعنف السياسي والصراع الحزبي المتزايد لكن الأسباب التي تجعل الأمريكيين يوافقون على العنف السياسي معقدة من بينها وجهات النظر بشأن العنف التي يتبناها كبار القادة السياسيين، والتي يمكن أن تساعد في تطبيع العنف.
ففي استطلاعات الرأي التي أجريت في عامي 2019 و2020، ظهر أن أنصار الحزب الأكثر ولاء كانوا أكثر موافقة على العنف السياسي.
لكن القادة يمكنهم أيضا المساعدة في جعل العنف أقل جاذبية، ففي استطلاعات عامي 2019 و2020، أدان أنصار ترامب وجو بايدن العنف السياسي، ولاحقا تزايد دعم العنف السياسي بين الأشخاص أنفسهم بنسبة 30%.
ومما سبق، يبدو تأثير الرسائل المناهضة للعنف واضحا خارج بيانات الاستطلاعات، ففي 6 يناير/كانون الثاني 2021، أقنعت دعوة ترامب مؤيديه لإخلاء مبنى الكابيتول بعضهم بالمغادرة.
وعلى العكس، وجدت أبحاث لمشروع "الخطاب الخطير"، وهي منظمة غير حكومية مقرها واشنطن، أن الخطاب العنيف لمؤثرين قد يلهم بشكل مباشر العنف في الواقع.
وبعد أسابيع فقط من إعلان ترشحه للرئاسة في صيف 2015، بدأ ترامب في الترويج للعنف والقمع كحل للمشاكل السياسية، وسخر من السيناتور بيرني ساندرز، لسماحه للمحتجين بالاستيلاء على ميكروفون في حدث عام قائلا "لن يحدث هذا أبدًا مع أي شخص".
وفي وقت لاحق من حملته، تعهد ترامب بأن يصبح "أكثر عنفًا" مع المتظاهرين وقاد أنصاره في الهتافات "احبسوها!" ضد منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
ويتوافق الخطاب العنيف المتزايد مع ارتفاع المؤامرات العنيفة والهجمات والتهديدات ضد القادة فوجد التقرير أن التهديدات ضد الكونغرس تضاعفت عشرة أضعاف بين عامي 2016 و 2021.
وفي 2020، حددت شبكة "ايه بي سي نيوز" أكثر من 50 قضية جنائية استشهد فيها المتهمون باسم ترامب لشرح أفعالهم العنيفة أو التهديدات بالعنف أو الاعتداءات المزعومة وبعد اقتحام الكابيتول، ألقى العديد من الجمهوريين باللوم على ترامب في التحريض على الحادث ومع ذلك، أيدوا ترشحه للرئاسة في 2024.
الثقافة أيضا
يمكن للخطاب السياسي أن يخلق بيئة للتسامح مع العنف أو تشجيعه لكنه ليس العامل الوحيد حيث يمكن للثقافة أيضًا أن تعزز العنف.
وتحتفظ الولايات المتحدة حاليًا بالرقم القياسي باعتبارها الدولة الأكثر تسليحًا في العالم، بأكثر من 120 سلاحًا ناريًا لكل 100 أمريكي، ويعطي هذا العدد الهائل من الأسلحة مصداقية للتهديدات العنيفة ويجعل من السهل على الأفراد القتل، وخاصة على نطاق واسع.
وتلعب الطريقة التي يتفاعل بها الناس مع دوائرهم الاجتماعية دورا في تعزيز أو تخفيف التسامح مع العنف السياسي.
ففي استطلاع أجري في مارس/آذار الماضي، ظهر أن الذين تحدثوا عن السياسة مع أشخاص من الحزبين أكثر رفضا بمرتين للعنف السياسي مقارنة بأولئك الذين تحدثوا عن السياسة مع الديمقراطيين فقط أو الجمهوريين فقط.
وعقب محاولة اغتيال ترامب، حرص الساسة والخبراء من الحزبين على دعوة الجميع إلى خفض درجة حرارة الخطاب التحريضي، ما يشير إلى أن العنف السياسي يمثل مشكلة في الاتجاهين.
واعتبر الجمهوريون أن حتى الديمقراطيين يتحملون اللوم إلى حد كبير عن الهجوم على ترامب بسبب تبني خطاب العنف.
لكن الحقيقة أن اليمين الأمريكي يتحمل مسؤولية أكبر عن العنف السياسي، وذلك على النقيض مع السبعينات حين ارتبط العنف السياسي بالجناح اليساري.
بالأرقام
أظهرت دراسة للمعهد الوطني للعدالة التابع لوزارة العدل في 2024 أن المتطرفين اليمينيين ارتكبوا منذ عام 1990 جرائم قتل بدوافع أيديولوجية أكثر من المتطرفين اليساريين أو المتطرفين الإسلاميين.
وأسفرت 227 حادثة لليمين المتطرف عن مقتل أكثر من 520 شخصا، مقابل 42 هجوما يساريا متطرفا أسفر عن مقتل 78 شخصا.
ويرجع ذلك إلى انتماء مرتكبي العنف بصورة أكبر للحزب الجمهوري وذلك رغمن أن عددا متساويا من الديمقراطيين والجمهوريين يدعمون العنف.
لكن اليمينيين يميلون أكثر بالسنوات الأخيرة لترجمة الدعم إلى فعل، كما أن الجمهوريين أكثر ميلا إلى إنكار وجود العنصرية المنهجية أو أنها تشكل تهديدا حقيقيا.
ويعتقد الكثير من الناس أن الديمقراطيين يحاولون استبدال الأمريكيين البيض المسيحيين بأشخاص من ذوي البشرة الملونة غير المسيحيين وأن الولايات المتحدة ينبغي أن تحكمها أسس المسيحية المحافظة.
كما يعتقدون أن جهود النساء لتحقيق التكافؤ في المجتمع هي محاولة للسيطرة على الرجال وهؤلاء أكثر ميلا للعنف السياسي.
ويميل القادة الديمقراطيون إلى معارضة العنف السياسي بغض النظر عن المستهدف، كما يتضح من إدانتهم السريعة لمحاولة اغتيال ترامب، لكن الجمهوريين لا يفعلون ذلك دائما.
وعزز الخطاب العنيف الذي يتبناه ترامب والجمهوريون الدعم للعنف السياسي وحقيقة أن ترامب نفسه كان ضحية للعنف ربما يكون ذلك سببا في إلهام انخفاض الخطاب العنيف واللاإنساني الذي يتبناه زعماء الجمهوريين.