في العام 1895، كتب المفكر غوستاف لوبون أنه “إذا كان يلزم وقت طويل لكي تترسخ الأفكار في نفوس الجماهير، فإنه يلزم وقت لا يقل عنه طولا لكي تخرج منها”، هذا الرأي الذي تبناه العالم في علم نفس الجماهير أو ما يصطلح عليه أيضا بعلم النفس الجماعي، قد يبدو صالحا في جزئه الأول لتلك الفترة الزمنية، فلوبون لم يكن يتوقع ربما ما ستؤول إليه الأوضاع في زماننا، بعد نحو 130 عاما عن إصداره كتاب “سيكولوجية الجمهور” الذي يعد واحدا من أهم المراجع لفهم نفسية الجماهير وسبل التأثير فيها وفي وعيها وسلوكها المشتركين.
اليوم، نحن نعيش زمن السرعة الجنونية، فحتى الجماهير أصبحت سريعة في تبني المواقف والسلوكيات، وهي تحتاج فقط محفزا متكررا بزمن واضح ومدروس وضغطا تقوده الميديا الجديدة، لتحول سلوكها إلى عمليات استنساخ.
من هذه الجماهير، جمهور الفن وتحديدا الموسيقى، الذي تحول من مستمع إلى مغني، يرتاد المهرجانات والحفلات ليغني لا ليستمع فقط، والسبب وراء ذلك انتشار مقاطع الفيديو المصورة لأشخاص يرقصون ويغنون خلال حضورهم حفلات موسيقية لأشهر الفنانين.
لم تكن هذه الظاهرة منتشرة بكثرة في السنوات الماضية، وبالتأكيد لم تكن موجودة في زمن غوستاف لوبون، حين لم يكن عامة الشعب يرتادون الحفلات الموسيقية والمهرجانات الكبرى، بل كانت حكرا على الطبقة الأرستقراطية التي تحضر بكل أناقتها وإتيكيت التعامل والجلوس وحتى التصفيق.
العصر الرقمي أعطى جهاز التحكم للجمهور الذي قد تصبح كل الحفلات بالنسبة إليه نسخا عن "الجمهور الكورال"
حتى في منطقتنا العربية، لطالما كان الجمهور العربي محبا للفن، لكنه كان يمارس سلوكا مميزا خلال ارتياده المسارح، يكفي أن تشاهد إحدى الحفلات النادرة لأم كلثوم أو عبدالحليم في أي بلد عربي أو علي الرياحي وعلية ونعمة في تونس، ستجد أن من يرقصون أو يغنون بصوت عال هم قلة قليلة، فالجمهور آنذاك كان يحجز تذكرة ليستمتع بصوت مطربه المفضل لا العكس.
مثل هذا السلوك الذي انتشر في المجتمع، قد يعزى لانتشار الحفلات الموسيقية التي تحول الجمهور إلى كورال، مثل “المشروع” الموسيقي الذي يعمل عليه الفنان المغربي أمين بودشار منذ نحو ثلاث سنوات. ويحمل مشروعه اسم “أنتم الكورال” أو “الجمهور الكوروال” ويعرف أيضا بـ”الجمهور المطرب”.
بودشار اختار أن يترك مايكروفون المطرب للجمهور، هو يغني بأعداد هائلة على أن يعزف بودشار وفرقته الألحان. هذا الفنان ابتكر علاقة جديدة بين المايسترو والفرقة والجمهور وحوّله إلى “كورال”، ونجحت تجربته في منحه شهرة عربية واسعة، بسبب مقاطع الفيديو التي يصورها للجمهور وهو يردد معه مجموعة من الأغنيات العربية والغربية الشهيرة، يتم توزيع كلماتها على الجمهور قبل الحفل عبر ملف “بي دي أف” يتم تحميله على الهواتف المحمولة.
ليلة الأول من أغسطس الجاري، كانت لي فرصة لحضور حفل لهذا الفنان ضمن فعاليات الدورة 58 لمهرجان قرطاج الدولي، حفل تحول فيه جمهور قرطاج إلى كورال، أو مطرب “على كلمة ولحن رجل واحد”.
والمعروف عن جمهور قرطاج منذ زمان بعيد أنه جمهور متمكن من أداء الأغاني، لا ينفك يبهر المطربين الذين يعتلون خشبة المسرح، يحفظ أغنياتهم ويرددها بـ”ميزان” موسيقي صحيح، وأحيانا دون الحاجة لمايسترو لقيادته.
وطوال سهرة من ساعتين ونصف، لم يسكت الجمهور بل غنا وطالب بأغنيات من خارج القائمة المبرمجة، وأداها كما لو أنه مطرب “شاطر” وموهوب، وجاء ملتزما بارتداء اللون الأبيض، الزي الموحد الذي يعتمده بودشار في كل حفلاته، ويقول إنه رمز للسلام والحب والأمل والسعادة.
هذا الجمهور الذي يغني مع بودشار ويتأثر بمقاطع الفيديو لجمهور يغني في حفلات أخرى، هو يغني معه بشغف لكنه قد يرفض الصمت مرة أخرى، حيث من المثير للانتباه في الفترة الأخيرة أن جمهور الموسيقى صار يرفض ارتياد حفلات المطربين ملتزما بالصمت، بل هو يرتادها ليغني ويغني ويغني حتى ينفعل عليه المطرب أحيانا.
هذا الأمر ليس بجديد على جمهور قرطاج، لكنه كان في السابق يغني قليلا ويسكت قليلا ثم يعيد الكرة، كما هو ليس بغريب عن جماهير أخرى.
أذكر أن آخر حفل للموسيقار اللبناني ملحم بركات في قرطاج عام 2016، كان غناء الجمهور المتكرر معه سببا في غضبه، حتى أنه خاطبهم قائلا “اسكتوا لأغني أو غنوا وسأسكت وأعيد لكم أموالكم”، حينها ضحك الجمهور وصفق وهتف ثم صمت ليترك للمطرب فرصة الاستمتاع بممارسة موهبته وشغفه في الغناء على المسرح.
بودشار نجح في فترة وجيزة أن يصبح إحدى الشخصيات الرمزية في المشهد الموسيقي المغربي والعربي
مثل هذه الحوادث صارت تتكرر بكثرة، فكم من فنان وجه ملاحظة للجمهور بأنه يغني كثيرا، على الأقل لجمهور مهرجان قرطاج، صحيح أنه يغني بانتظام ودقة وبإبهار كبير، لكنه يحرم الفنان لذة الغناء والاستمتاع بالغناء وحتى استكمال عمله، فهو يحصل على أجر مقابل الغناء.
ويبدو أن العصر الرقمي قد نجح في قلب موازين صناعة الموسيقى، بإعطاء جهاز التحكم في يد الجمهور الذي صار يتبنى بسرعة ما يراه على الأنترنت وقد تصبح –بسرعة جنونية – كل حفلات المطربين هي بالنسبة له نسخا عن مشروع “الجمهور الكورال” لأمين بودشار.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هل سيتمكن المطربون من إسكات الجمهور مجددا؟ وهل يمكن إقناع الجماهير مجددا بأنهم يرتادون حفلات ليستمتعوا بأصوات المطربين لا للغناء وتصوير مقاطع فيديو وهم يغنون؟
الأيام وحدها كفيلة بالإجابة على هذا التساؤل الذي بدأ الكثير من الموسيقيين يحذرون من خطورته، حيث يرجح ألا يسكت جمهور الموسيقى العربية مجددا، خاصة وأن مشروع بودشار بدأ يجد صدى له في دول أخرى، أين بدأت تظهر مجموعات موسيقية متخصصة في “الجمهور الكورال” مثل مشروع يلا نغني في تونس، وقريبا قد تصبح حفلات المهرجانات أشبه بحفلات “الكاريوكي”.
وبالعودة إلى بودشار، فهو ورغم نجاح حفله الكبير في مهرجان قرطاج إلا أنه للمرة الأولى لم يبرمج أغنيات مغربية، رغم معرفته بأن الجمهور التونسي قد يكون مطلعا على الموسيقى المغربية جراء القرب الجغرافي وتشابه الثقافات، وهو أمر يثير الاستغراب، خاصة وأن الفنان دأب على برمجة أغنيات مغربية في كل حفلاته السابقة التي كان بعضها أمام جمهور لا يفقه اللهجة المغربية.
وجاء حفل بودشار في قرطاج بعد نجاح حفل له نظم في شهر مايو الماضي بأوبرا تونس، ورغم أنه قال إنه اختار برمجة خاصة بعرضه في قرطاج إلا أن البرمجة تبدو متشابهة، فهو لم يغير فيها كثيرا، واكتفى بمشاركة عازفين تونسيين وآخرين مغاربة. فالموسيقار يحاول أن يقدم معزوفات موسيقية خاصة به مستوحاة من الموسيقى المغربية وموسيقات عربية أخرى، يعتمدها كاستهلال لحفله وفواصل موسيقية بين الأغاني واستراحة للجمهور.
بودشار أو بودشارت – كما يلقبه البعض – متخصص في الموسيقى ويسعى لتأليف مقطوعات خاصة به، منها “موزاييكا” وهي مزيج من أنماط موسيقية متنوعة غربية وشرقية مستوحاة من الموسيقى الأمازيغية المعروفة بالأطلس المتوسط، و”بارطيا كروف” وتعتبر هذه المعزوفة مزيج موسيقي بين الركادة والريغي، و”جبلي جام” التي تمزج بين الألحان البلقانية والمصرية والمغربية الشمالية، و”تعريضة”، وهي مزيج متقن من ألحان الشكوري والتعريضة الشهيرة.
يقدم بودشار مؤلفاته الموسيقية البحتة، فيصغي لها الجمهور صامتا، ثم ما يلبث أن يعود للغناء. وهنا يراودنا تساؤل مهم: هل أن بودشار سيواصل في تقديم هذا النوع من الحفلات؟ وهل أن الجمهور الذي تأثر بظاهرة “أنتم الكورال” سيبدي دائما الإقبال الكبير نفسه على مثل هذه الحفلات أم أنه سرعان ما سيمل منها وينصرف نحو حضور حفلات لمطربين على أن يكون هو الكورال أيضا؟
بودشار الذي انطلق شغفه بالموسيقى منذ صغره وطور مهاراته الموسيقية كمتعلم ذاتي بالموازاة مع دراسته في مجال الهندسة نجح في فترة وجيزة أن يصبح إحدى الشخصيات الرمزية في المشهد الموسيقي المغربي والعربي، لكنه هل ينجح في فرض اسمه في الساحة كمؤلف موسيقي؟ وهل تجد حفلاته الخاصة بمؤلفاته اقبالا كبيرا ونراه مستقبلا واحدا من أهم الموسيقيين العرب الذين يقدمون فنا مختلفا، بعيدا عن “الجمهور الكورال”؟