تسلك عملية البحث عن مداخل لعملية سلام جادّة في اليمن مسارا عكسيا لحالة التصعيد القائمة في المنطقة والتي طالت البلد جرّاء انخراط جماعة الحوثي في استهداف خطوط الملاحة في البحر الأحمر وبعض المواقع في الداخل الإسرائيلي، الأمر الذي استدعى ردّا عسكريا من قبل تل أبيب تركّز في ميناء الحديدة غربي اليمن، بالإضافة إلى الضربات التي يوجهها التحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة لأهداف تابعة للجماعة.
وتقف وراء الإصرار على السلام في اليمن وعدم اليأس من تحقيقه، رغم صعوبة ذلك، إرادة قوية للمملكة العربية السعودية التي لا تستبعد المصادر وجود طموح لديها لقطع أشواط متقدمة في إنجاز عملية سلمية بين الحوثيين والشرعية اليمنية في بحر المدّة الوجيزة نسبيا والتي تفصل بين الوقت الراهن وموعد الانتخابات الأميركية المقررة لشهر نوفمبر القادم، وذلك تحسّبا لما ستفرزه تلك الانتخابات وطبيعة الإدارة الأميركية التي ستنبثق عنها ولا تضمن المملكة ما سيكون عليه موقفها من الصراع الدائر في اليمن.
وفي وقت سابق من الأسبوع الجاري فوجئ المتابعون للشأن اليمني بإنجاز تهدئة اقتصادية بين الحوثيين والشرعية اليمنية جاءت بالضدّ تماما من إجراءات مالية صارمة كانت الحكومة المعترف بها دوليا قد اتّخذتها ضد الحوثيين وشملت سحب تراخيص مصارف لم تستجب لقرار نقل مقراتها الرئيسية من مناطق الجماعة إلى مناطق الشرعية وفصل المؤسسات المالية في صنعاء عن نظام سويفت لتحويل النقد الأجنبي بين البنوك عبر العالم.
وأتبع التهدئةَ التي قالت مصادر متعدّدة إنّ الرياض مارست ضغوطا شديدة على مجلس القيادة الرئاسي اليمني لإقرارها، الدّخولُ مباشرة في التحضير لجولة مفاوضات في سلطنة عمان بين الحكومة اليمنية والحوثيين لمناقشة مسائل مالية واقتصادية تمثّل جزءا من خارطة الطريق التي سبق وأن أعلنت الأمم المتحدة التوصّل إليها لتكون مدخلا اقتصاديا وإنسانيا لمسار سلمي يشمل البحث عن حلّ سياسي للصراع في اليمن.
ونُقل عن مصدر حكومي يمني قوله إن الحكومة المعترف بها دوليا وجماعة أنصارالله الحوثية توصلتا بوساطة من الأمم المتحدة وسلطنة عمان إلى اتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لمناقشة عدد من القضايا في الشأن الاقتصادي، من بينها دفع رواتب الموظفين العموميين واستئناف تصدير النفط الخام.
وأوضح المصدر الذي نقلت عنه وكالة سبوتنيك الروسية أن من بين القضايا الاقتصادية التي ستكون محل نقاش بين ممثلي الحكومة والحوثيين في اللجنة المشتركة معالجة الانقسام في القطاع المصرفي وتوحيد العملة وحيادية البنك المركزي اليمني وآلية صرف الرواتب.
وبحسب الصحافي اليمني فارس الحميري الذي نقل عن مصدر حكومي وصفه بالمطلع، فإنّ المفاوضات ستشمل وضع آلية لسحب العملة المعدنية من فئة مئة ريال، التي سكّها الحوثيون في مارس الماضي ويتم تداولها في صنعاء وباقي مناطق سيطرة الجماعة، من السوق.
وأعلن المبعوث الأممي إلى اليمن هانس غروندبرغ الثلاثاء الماضي عن توصّل الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي إلى اتّفاق بشأن تدابير لخفض التصعيد في ما يتعلق بالقطاع المصرفي والخطوط الجوية.
وصب الاتفاق بشكل رئيسي في مصلحة الحوثيين المتضرّرين من الإجراءات الحكومية التي تضمنت تضييقات مالية شديدة عليهم، ومثّل تراجعا من قبل السلطة الشرعية التي يقودها رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي بعد ما أظهرته في خطابها السياسي والإعلامي من إصرار على تنفيذ إجراءاتها مشترطة التزام جماعة الحوثي بتطبيق جملة من الشروط مقابل أي تعليق لتلك الإجراءات أو تراجع عنها.
لكنّ الاتفاق عكس أيضا رغبة المملكة العربية السعودية ذات التأثير الكبير على قرارات الشرعية اليمنية في التهدئة وخفض التصعيد مع الحوثيين، أملا في الدفع بمسار سلمي في اليمن ينهي الصراع هناك ويخلّص المملكة من عبئه وينهي تأثيراته على الاستقرار في محيطها القريب.
ورحّبت السعودية الأربعاء بالتوصل للاتفاق، مشيرة إلى ضرورة التوصل إلى “حل سياسي شامل”. واستبعدت الكثير من الدوائر السياسية أن تكون الشرعية اليمنية قد أقدمت على الخطوة التصالحية عن طيب خاطر، خصوصا وأن المحتوى المعلن عنه للاتفاق لا يلبي أيا من مطالبها.
واعتبرت تلك الدوائر أنّ الاتفاق يصنّف ضمن سلسلة أطول من التنازلات للحوثيين قدمتها السعودية أو دفعت الشرعية لتقديمها في سبيل جلبهم إلى طاولة الحوار والتفاهم، ومن ذلك قبول الرياض بمحاورتهم مباشرة وإيفاد ممثلين لها إلى صنعاء واستقبال ممثلين للجماعة في عاصمة المملكة، وأيضا تقديم امتيازات مالية واقتصادية لهم من خلال خارطة الطريق التي أعلنت الأمم المتحدة في وقت سابق عن التوصل إليها بمباركة من المملكة.
وقال تقرير صادر عن مركز صنعاء للدراسات إن السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر بذل قصارى جهده لإجبار الحكومة اليمنية والبنك المركزي اليمني التابع لها على التراجع عن القرارات التي كانت ترمي إلى عزل جماعة الحوثيين عن النظام المصرفي الدولي.
وبحسب محرّر التقرير الباحث نيد والي، فإن قرار البنك المركزي اليمني بعزل البنوك وتقييد التحويلات المالية في مناطق سيطرة الحوثيين شكل تهديدا حقيقيا كان سيتسبب في شلل اقتصاد السلطة التي تديرها الجماعة وإرخاء قبضتها على مناطق سيطرتها.
الحكومة المعترف بها دوليا وجماعة أنصارالله الحوثية توصلتا بوساطة من الأمم المتحدة وسلطنة عمان إلى اتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لمناقشة عدد من القضايا في الشأن الاقتصادي
وقال إن تلك الإجراءات كانت أيضا ورقة الضغط الأخيرة للحكومة في مساعيها للتفاوض على انفراجة في الحرب الاقتصادية واستئناف صادرات النفط أو التأثير على ميزان القوى المختل أساسا قبل الدخول في محادثات السلام المرتقبة، غير أن السعودية مارست ضغطا هائلا لإلغائها.
ونقل التقرير عن مصادر، فضلت عدم الكشف عن هويتها، قولها إنّ آل جابر لم يفلح في تغيير موقف محافظ البنك المركزي اليمني بعدن أحمد غالب الذي عبّر عن احتجاجه الشديد بتقديم استقالته لكن تم رفضها من قبل مجلس القيادة الرئاسي.
وقالت المصادر ذاتها إنّ السفير السعودي ألمح ضمن ضغوطه على الشرعية اليمنية بأنّ الأخيرة ستواجه مصيرها بمفردها في حال لجأ الحوثيون إلى الانتقام منها عسكريا، محذّرا من أنّ الإجراءات التي اتّخذها البنك المركزي ضدّ الحوثيين هي بمثابة إعلان حرب وأن الجميع ليسوا على استعداد لذلك.
كما شملت الضغوط السعودية على الشرعية اليمنية، وفقا للتقرير ذاته، التهديد بقطع التمويل عن الحكومة المعترف بها دوليا وإلغاء منح الوقود والودائع النقدية والمساعدات التنموية المقدمة إليها من الرياض.
وربط مطلّعون على الشأن اليمني التوجّه السعودي بجهود المملكة لتسريع الدفع بالحلّ السلمي للصراع في اليمن. ورأى وزير الخارجية اليمني الأسبق أبوبكر القربي أنه حان الوقت للدخول في مفاوضات الحل النهائي في اليمن.
واعتبر في تعليق له عبر منصّة إكس أن “الاتفاق الأخير الذي تم الإعلان عنه في اليمن يجب أن تتبعه مفاوضات سياسية”، مضيفا “الاتفاق الذي أعلنه المبعوث الأممي بدعم السعودية بشأن تجميد (إلغاء) القرارات الخاصة بالبنك المركزي والخطوط الجوية اليمنية، يجب لاستدامته توفر دعم كافة أطراف الصراع الداخلية والخارجية له والبدء فورا بمفاوضات الحل السياسي الشامل والتصدي للمعرقلين إذا أريد حقا إنهاء الحرب واستعادة الدولة”.