المجتمع

الذكاء الاصطناعي: صديق للفنانين أم عدو لهم
الذكاء الاصطناعي: صديق للفنانين أم عدو لهم
مع ظهور الكاميرا لأول مرة، في القرن التاسع عشر، تحديدا عام 1839 برزت مخاوف في الوسط الفني من الدخول في منافسة غير عادلة تحسم لصالح التكنولوجيا، كان هناك قلق بين الفنانين من أن تُقلل التكنولوجيا الجديدة من قيمة الرسم والتصوير اليدوي، وأن تُصبح الصور الفوتوغرافية بديلاً عن الأعمال الفنية التقليدية.

ما حصل عكس ذلك تماما، الفترة التي تلت ظهور التصوير الفوتوغرافي يشار إليها الآن بأنها أكثر الفترات ثراء في تاريخ الفن، وبالتحديد الفن الحديث. المخاوف سرعان ما اختفت ووجد الفنانون حلولا مبتكرة بالابتعاد عن الواقعية الفوتوغرافية. وبعد أن كان الفنان أسير الواقع، تحرر ليبتكر أساليب جديدة للتعبير.

بحلول عام 1860 ظهرت مدرسة فنية سرعان ما قلبت مسيرة الفن، وهي كما خمن الجميع المدرسة الانطباعية. البداية كانت في فرنسا مع لوحة “انطباع شروق الشمس” للفنان الفرنسي كلود مونيه، تلتها خلال وقت قصير المدرسة التعبيرية التي كانت انطلاقتها أيضا من فرنسا ومنها انتقلت إلى ألمانيا، ما تبقى من الحكاية يعرفه الجميع.

سرعان ما ظهرت أعمال ما بعد الانطباعية وهي تشير إلى مجموعة من الفنانين أكثر مما تشير إلى مدرسة فنية محددة، من بينهم فان كوخ وتولوز لوتريك وغوغان وبول سيزان الذي مهد للتكعيبية بقيادة الاسباني المقيم في فرنسا بابلو بيكاسو، لتلحق بها المدرسة السريالية بريادة ابن بلده سلفادور دالي، وتتوج المسيرة بالتجريد على يد الفنان الروسي فاسيلي كاندينسكي الذي لعب دورا محوريا في تطوير الفن التجريدي كفنان وباحث نظري وكان من الرواد الأوائل للمبدأ اللاتصويري أو اللاتمثيلي. ولعبارة أخرى، مبدأ “التجريد الصافي”..

باختصار، الكاميرا التي رأى فيها البعض تهديدا سيضع نهاية لفن الرسم، كانت الدافع لثورة فنية غير مسبوقة. بدلا من أن تنهي الكاميرا دور الفنان، أضافت إليه أبعاد جديدة.

المخاوف نفسه تطرح اليوم مع انتشار الذكاء الاصطناعي، وبينما يرى البعض أن التكنولوجيا الذكية ستقضي على دور الفنان، يرى آخرون في الذكاء الاصطناعي فرصة لإثراء التجارب الفنية وتعزيز الإبداع الفني بدلاً من تقويضه.

الذكاء الاصطناعي يقدم أدوات جديدة تُمكن الفنانين من تجاوز الحدود التقليدية وتطوير أساليب فريدة. وبالرغم من التحديات الأخلاقية والجمالية التي يثيرها، يُمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في توسيع تعريف الفن وإثراء المشهد الفني العالمي.

فمن جهة، يعتبر الذكاء الاصطناعي صديقًا للفنانين، إذ يُقدم لهم أدوات جديدة تُمكنهم من تجربة تقنيات لم تكن متاحة في السابق، ويساعد في توليد أفكار وأنماط فنية قد تكون خارج نطاق الفكر البشري التقليدي، مما يعزز الإبداع وينتج أعمالًا فنية مبتكرة.

ومن جهة أخرى، يمكن أن ينظر إلى الذكاء الاصطناعي كعدو للفنانين، خاصةً عندما ينتج أعمالًا فنية بشكل مستقل. وهذا يطرح سؤالا حول ما إذا كانت الأعمال التي ينتجها الذكاء الاصطناعي تعتبر فنًا حقيقيًا، وهل يمكن أن تقلل من قيمة الإبداع البشري.

يستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل في إبداع وتوليد لوحات فنية. يشار إلى هذه الأعمال بفن الجينيراتيف، حيث يستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء أعمال فنية مبتكرة وفريدة من نوعها. يتم ذلك عادةً باستخدام خوارزميات معقدة تحلل الأنماط وتولد صورًا جديدة تحاكي أساليب فنية معينة أو تخلق أساليب جديدة كليًا.

تُستخدم تقنيات مثل الشبكات العصبية الاصطناعية وتعلم الآلة لتحليل البيانات الفنية الضخمة وتوليد أعمال فنية تتميز بالتعقيد والجمال. هذه الأعمال قد تكون مستوحاة من أساليب فنانين مشهورين أو تمامًا من خلال الذكاء الاصطناعي نفسه.

كارين لينجل: الذكاء الاصطناعي يغزو الكثير من المجالات الوسيطة في قطاع الفن أكثر من الفن نفسه، وهو ما يهدد وظائف ومهام في صناعة الفنون ككل

القصة بدأت مع الروبوت “آيدا” وهو أول روبوت فنان واقعي قادر على الرسم مثل الفنانين البشر. تم تصميمه وفقًا لخوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تمكنها من الرد على الأسئلة، الاختيار، واتخاذ القرارات لإنشاء لوحة. وتستخدم “آيدا” كاميرات وذاكرة حاسوب لرسم صور وبعد المسح الضوئي للصور، تستخدم ذراعًا آلية لتشكيل صور ثلاثية الأبعاد.

تم إطلاق الروبوت “آيدا” في عام 2019 وسُميت على اسم أعجوبة الرياضيات ورائدة الحوسبة آدا لوفليس (ولدت سنة 1815 وهي الطفلة الوحيدة للشاعر الإنكليزي لورد بايرون من زوجته عالمة الرياضيات آن إيزابيلا ملبانك).

وقد نجحت آيدا في رسم لوحات فنية لنجوم مهرجان غلاستونبري للموسيقى في بريطانيا، ومن بينهم بيلي إيليش وديانا روس وكندريك لامار والسير بول ماكارتني، وطرحت أسئلة أخلاقية حول ما إذا كنا نريد حقًا أن تصنع الروبوتات الفن؟

ويعتبر هذا التطور مثيرا للجدل، حيث يطرح السؤال حول ما إذا كانت الأعمال الفنية التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي يمكن اعتبارها “فنًا” حقيقيًا، نظرا لأن العملية الإبداعية تتم بواسطة آلة. ومع ذلك، يظهر الاهتمام المتزايد بهذا النوع من الفن أن الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا لا يتجزأ من المشهد الفني الحديث.

ألمانيا، تحديدا مدينة كولون، التي شاركت باريس مهمة تطوير الفن منذ نهايات القرن التاسع عشر وامتدادا إلى منتصف القرن العشرين، كانت مؤخرا مسرحا لسبر آراء أظهر أن الكثير من الفنانين يرون فرصا كبيرة في الاستفادة من الأنماط والتقنيات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.

أظهر سبر الآراء أن 43 في المئة ممن تم أخذ آرائهم يرون في الذكاء الاصطناعي فرصة. ولكن هذا لم يلغ مخاوف آخرين قالوا إن لديهم مخاوف في هذا الشأن، وأكد 56 في المئة منهم إنهم يخشون فقدان مصدر دخلهم، في حين قال 53 في المئة منهم إنهم يرون في الأفق تهديدا لمستوى دخل العاملين في مجال الفنون المرئية بسبب الذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، يثير الذكاء الاصطناعي الكثير من الفضول في المشهد الفني، كما هو الحال في العديد من الصناعات الأخرى.

وأكد معدو الدراسة أن “42 في المئة من الفنانين الذين شملهم المسح لديهم بالفعل تجاربهم  الفنية مع الذكاء الاصطناعي في ابتكار الأعمال، واستخدم نصفهم أدوات الذكاء الاصطناعي  للعثور على الأفكار واستخدم 39 في المئة منهم  هذه الأدوات لتطوير أعمال جديدة”.

لم يقتصر سبر الآراء على الفنانين، بل شمل أكثر من 1000 شخص من جمهور الفن شاهدوا الأعمال الفنية المصنوعة بالذكاء الاصطناعي، وقال أكثر من ستين في المئة منهم منهم إنهم أعجبوا بالأعمال الفنية التي تم تطويرها جزئيا أو كليا باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

أجرت المسح مؤسسة غولدميديا للاستشارات لحساب مؤسسة الفن الحديث شتيفتانج كونشتفاوندس ومنظمة حقوق المؤلفين إنشييتف أوربريشت بمشاركة أكثر من 3000 فنان في مجالات مثل الرسم والنحت وفن الفيديو والرسوم والتصوير الفوتوغرافي والتمثيل.

وقالت كارين لينجل من مؤسسة الفن الحديث إن “الذكاء الاصطناعي يغزو الكثير من المجالات الوسيطة في قطاع الفن أكثر من الفن نفسه، وهو ما يهدد وظائف ومهام في صناعة الفنون ككل بما في ذلك المتاحف ودور النشر ومعارض اللوحات والصحافة والطباعة”.

يُمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يُقدم فرصًا وتحديات في آن واحد. فهو صديق عندما يُساعد على توسيع الإمكانيات الإبداعية، ولكنه قد يُصبح عدوًا إذا ما أُسيء استخدامه أو أثر سلبًا على القيمة الفنية والأصالة.

يجب النظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه شريكًا جديدًا للفنانين في رحلتهم الإبداعية. يُمكن له أن يُساعد الناشئين منهن على تعلم وإتقان مهارات جديدة. من خلال تحليل الأعمال الفنية الكلاسيكية والحديثة، يُقدم الذكاء الاصطناعي رؤى وتقنيات يمكن للفنانين استيعابها وتطبيقها في أعمالهم.

من خلال البرمجيات المتقدمة، يمكن للفنانين استكشاف أبعاد جديدة في أعمالهم، حيث يُسهم الذكاء الاصطناعي في توليد الألوان والأشكال والأنماط التي قد لا تخطر على بال الإنسان. هذا التعاون يُنتج أعمالًا فنية تجمع بين الحس الإنساني والقدرات الحسابية للآلة، مما يُثري الفن التشكيلي بأساليب جديدة ومبتكرة.

يُمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يُقدم فرصًا جديدة للفن التشكيلي، مما يُتيح للفنانين التعبير عن أنفسهم بطرق لم تكن ممكنة من قبل.

مع ذلك، يُثير الذكاء الاصطناعي تحديات أخلاقية وجمالية، ومهمة المجتمع الفني التفكير بعمق في كيفية دمج هذه التكنولوجيا بطريقة تُحافظ على جوهر الفن وتُعززه.

في نهاية المطاف، هل يمكن اعتبار الأعمال الفنية التي يُنتجها الذكاء الاصطناعي أصيلة؟ وهل يُعد الذكاء الاصطناعي فنانًا بحد ذاته؟ هذه الأسئلة تُطرح في النقاشات الفنية وتُشكل جزءًا من الحوار حول مستقبل الفن التشكيلي.

ولكن، ما هو مؤكد أن الفن سيخرج منتصرا، وسنجد قريبا ثورة فنية تتجاوز الثورة الفنية التي تلت ظهور التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر.

05 يوليو 2024

هاشتاغ

التعليقات