حين كنا صغارا في اعمارنا كانت احلامنا كبيرة ، كثيرا من هذه الاحلام مازلت مقيمة فينا ، فمن منا منذ الطفولة وحتى اليوم لا تبهره هيئة وصفة الطبيب ، ومن منا لا تبهره هيبة الطبيب العسكري، اكان جراحا او ممرضا او مخبريا، او من طواقم الاسعاف.
قبل اسبوع زرت مستشفى عبود العسكري بالعاصمة عدن ، قدمت إليها منكسراً ومحبطاً، موجوع الرأس مرفوع ضغط الدم لدرجة الدوار ، وخرجت منها كأن ملائكة الله قد غسلتني بماء العافية وعطرتني بموفور السعادة .
مشاهد البناء والبعث والإحياء، لمنشآت المستشفى ومكوناته من بين أنقاض ربع قرن من التدمير والاهمال ، واعمال تشييد وإستحداث ، لأقسام لم تكن موجودة ، تسطف وسط حركة دؤوبة ، لتستقبل المريض والزائر بأثر مباشر وفعال من الارتياح النفسي ، ولتؤكد لمن زار المستشفى قبل ثمانية اعوام، ان القيادة التي أعادت للمستشفى الحياة، جديرة في نيل ثقة القيادة العليا وابطال قواتنا المسلحة .
دلفت الى قسم المختبرات ، واجريت فحوصات عدة ، ومن شدة إنبهاري ، اردت تقديم شكر لإدارة المستشفى ، فقلت للطبيب المخبري ، ايهما كان الاصعب عليكم ، معالجة علل وأسقام المستشفى، ام جراح وإصابات الجرحى في ظل إمكانيات شحيحة !!
تبسم . واخذني بيده الى امام النافذة وقال مشيرا بيده الاخرى : إسأل ذاك ، والإشارة الى شاب ، يسيطر على ذهولك بحيويته ، ويخجلك بإخلاصه وتفانيه كلما إقتربت منه ، تشعر وهو يتحدث إليك، ولغيرك انه يرتب فيك اولويات العمل الوطني ، ويجيب عن أسئلة إندهاشك .. من احيا رميم هذا المستشفى الذي مات !
ضننت للوهلة الاولى والثانية ، انه مدير المستشفى ، غير ان مدير المستشفى صادفته وانا في طريقي لهذا الشاب ، كان المدير فيما يرتديه يثبت انه متمسك بشعارات أطراف الهدم لا البناء ، كان يرتدي بزة عسكرية وطربوش يمني .. قلت له بصوت خفيض ، تدرج الى مستوى الصراخ : هذا الطربوش هو الداء وهو المرض والعلة التي ألمت بنا ووطننا الجنوب ، هو الذي يرتديه من يقاتله ابطالنا وهؤلاء الشهداء و الجرحى الذين يتوالون تباعا الى المستشفى .
اجابني بغضب .. انت اكبد تبع المجلس الانتقالي.
لم اجبه لأن غصة لفت حول عنقي كحبل مشنقة ، ومضيت نحو ذاك الشاب ، اخذت معه صورة فقط ، وعرفني به الجرحى والمرضى
قالوا : هذا هو الدكتور عارف الداعري رئيس دائرة الخدمات الطبية للقوات المسلحة الجنوبية .
قلت بموجة سرور : يا دكتور ؛ هناك من خُلق مفطوراً على خدمة الناس وإعانتهم ، افاوى الى مهنة الطب اولاً، وهناك من ولد بجين فدائي فرابط على حدود وطنه وجبهاته وأمنه واستقراره ، فهنيئا لك ولأمثالك الذين جمعوا بين الاثنتين ، طبيبا وعسكرياً في الوقت نفسه .. قبلني على رأسي ، فأخذتني العبرة وبكيت فرحاً باليوم والذي يليه من باقي العمر ..