يتمتع أهل نيويورك وسكانها الحاليون بالأعمال الفنية التي تركها جار قديم منذ مائة عام، هو جبران خليل جبران. وقد عاش الكاتب والشاعر والرسام، طفولته في بلدة بشري اللبنانية، ويفاعه في بوسطن، وشبابه في نيويورك. وأمضى فيما بينها، أربع سنين في باريس وبيروت.
يُكتب الآن الكثير عن معرض «عودة جبران إلى نيويورك». وكُتب عنه الكثير منذ وفاته. وأقيمت له التماثيل في أميركا وفرنسا. وترجم إلى أربعين لغة، وبيع من كتبه ملايين النسخ، خصوصاً «النبي». وكنت بين آلاف الذين كتبوا، ولا جديد عندي أضيفه إلى ما كتبت أو ما كتبوا. لكن عليّ اعتذار. ليس لجبران، وإنما لأشهر رفاقه وأعز أصدقائه، ميخائيل نعيمة.
قرأت جبران، مثل الجميع، وأنا في الرابعة عشرة، سن الحزن والحب والتمرد. وكرهنا جميعاً السيرة التي وضعها نعيمة عنه. ورأينا فيها حسداً وضغينة وانتقاماً. ورأيت أن نعيمة حاول التقليل من شأن صديقه، وخان في الأمانات، وروى عن حياته تفاصيل صغيرة كان في الإمكان الاستغناء عنها. وبقيت على تلك القناعة. وزاد فيها أنني لم أحب أسلوب نعيمة في الكتابة لأنه جاف، ولم يخرج من خشونة القرية كما فعل جبران. وبينما رفرفت طيور جبران في أرجاء الكون الكبير، أخفق نعيمة في التحليق بعيداً.
إذ أتابع «عودة جبران إلى نيويورك»، اكتشفت بالصدفة أنني ارتكبت خطأً كبيراً في حق نعيمة. الرجل وضع سيرة زميله على الطريقة الأميركية: الحقائق المرّة، وخصوصاً الدراماتيكي منها. نعيمة كتب بالأسلوب الموضوعي، ونحن قرأنا بالطريقة العصبية والحزبية التي لها علاقة بضغائن القرى أكثر مما بالنقد الأدبي، أو من السيرة، أو بالحداثة التي كان نعيمة قد اكتشفها ونهل منها وهو يجول ما بين أوكرانيا والولايات الأميركية، ويقاتل في الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الأولى.
كان على نعيمة أن يتولى هو الدفاع عن كتابه عن جبران. وأن يشرح الدوافع. خصوصاً وأنه كان يدرك أكثر من سواه أن جهلاً كبيراً كان يحيط بأهل تلك المرحلة، وأن عاطفة شديدة كانت تسيطر عليهم في كل ما يتعلق بجبران. بعد 100 عام لا يزال في تلك الثنائية شيء من الانكسار في أجنحة نعيمة. نيويورك تتذكر ونيويورك تنسى. نيويورك تتنقل بين حدائق جبران حيث أمضى الكثير من عمره القصير، لكن ليس من مقعد خشبي لرفيقه «ميشا»، كما كان يناديه تحبباً. في أي حال، أتمنى قبول الاعتذار حتى لو لم يكن يعني أحداً.