ينشغل العالم والمنطقة هذه الأيام بما ستكون عليه تركيا بعد إعادة إنتخاب رجب طيب إردوغان رئيسا لخمس سنوات جديدة. ثمّة واقع لا يمكن تجاهله يتمثّل في أن إردوغان بقي في موقع الرئاسة، علما أن الانتخابات أجريت في ظروف مشكوك في نزاهتها.
ليس معروفا هل تغيّر إردوغان في ضوء اكتشافه أنّ تركيا، بغض النظر عن التقدّم الذي حققته في ميادين معيّنة، ليست سوى دولة من العالم الثالث من جهة وأنّ حلمه بالقضاء على إرث مصطفى كمال اتاتورك سيقضي على تركيا من جهة أخرى.
أي أردوغان، عاد إلى الرئاسة للتحكم بمصير تركيا التي يتجاهل مشاكلها وأزماتها الداخليّة، خصوصا في مجالات الاقتصاد والعلاقات الدوليّة... والقدرة على استيعاب الأقلّيات الكرديّة والعلويّة على سبيل المقال وليس الحصر؟
إنتصر إردوغان بفضل الدعم الذي وفّرته له السيطرة على أجهزة الدولة، بما في ذلك وسائل الإعلام الرسميّة التي كان مسموحا له باستخدامها قدر ما يشاء وكيفما شاء. في الوقت ذاته، تعرّض المرشح المنافس كمال كيليتشدار اوغلو لضغوط جعلت الوقت المتاح له في وسائل الإعلام شبه محدود!
في حال لم يستطع الرئيس التركي، الجديد القديم، استيعاب ما على المحكّ في بلده، يُخشى من تحوّل تركيا إلى رجل المنطقة المريض على غرار ما كانت عليه الدولة العثمانية في السنوات التي سبقت انهيارها في عشرينات القرن الماضي.
سيعتمد الكثير على ما إذا كان في استطاعة رجب طيب إردوغان القيام بمراجعة للذات بدءا بسؤال نفسه لماذا هذا الهبوط للعملة الوطنية وصولا إلى فقدانها ثمانين في المئة من قيمتها في سنوات قليلة... منذ بدأ كبار التجار والصناعيين يهربون بأموالهم إلى خارج تركيا.
مشكلة إردوغان في إردوغان. مشكلته في أنّ إردوغان يدور حول إردوغان. إنّه شخص لا يعرف العالم ويكره الغرب ويرفض في الوقت ذاته التعرّف إلى الأسباب التي جعلت تركيا تدخل مرحلة رجل المنطقة المريض. الواضح أنّها في بداية هذه المرحلة، خصوصا أنّ الرجل خاض كلّ معاركه من أجل القضاء على إرث مصطفى كمال اتاتورك الذي حول تركيا إلى بلد علماني ومدني وربطه بالغرب. أنقذ اتاتورك ما يمكن إنقاذه من الدولة العثمانيّة في الحروب التي خاضها قبل توقيع معاهدة لوزان قبل مئة عام. كان بقاء سميرنا التي صار اسمها إزمير مدينة تركيّة من بين ما نجح به اتاتورك في حروبه.
لا يعرف إردوغان العالم ولا يعرف أهمّية الغرب الأوروبي وأهمّية العلاقة باميركا، فضلا عن دور تركيا في اطار حلف شمال الأطلسي (ناتو). إلى ذلك، لا يعرف الرئيس التركي الذي أقام نظاما رئاسيّا على مقاسه، أنّ العالم الغربي يمثّل الحضارة وذلك بغض النظر عن أي اعتراضات على السياسات الأميركيّة والأوروبيّة. من يمتلك فرصة الإنتماء إلى العالم الغربي وقيمه ولا يستغلّها إنّما يرتكب جريمة في حقّ شعبه وبلده، خصوصا عندما يظهر حقدا على أوروبا وأميركا ويرضخ لفلاديمير بوتين في سوريا وغير سوريا.
في الواقع، ثمّة أسئلة كثيرة محورها ما الذي سيفعله رجب طيب إردوغان في ضوء انتصاره. في حال وضعنا جانبا الأزمات الداخليّة التركيّة التي تتقدمها الأزمة الإقتصاديّة، نجد تركيا محاطة بمجموعة لا بأس بها من الدول المريضة. بين هذه الدول "الجمهوريّة الإسلاميّة" الإيرانية والعراق وسوريا. يجمع بين سوريا والعراق في هذه الأيّام عنوان عريض هو الهيمنة الإيرانيّة. في كلّ يوم يمرّ، تزداد الهيمنة الإيرانيّة على العراق، فيما لا يرى رجب طيب إردوغان في العراق سوى الخطر الكردي. ما ينطبق على العراق، ينطبق على سوريا أيضا. لم يعد لدى بشّار الأسد، في ضوء الهزيمة التي يعاني منها فلاديمير بوتين في أوكرانيا، سوى الإرتماء اكثر في الحضن الإيراني الذي لا يستطيع الخروج منه. لا يستطيع ذلك، عاد إلى احتلال مقعد "الجمهوريّة العربيّة السورية" في جامعة الدول العربيّة أم لم يعد.
ليس رجب طيب إردوغان من نوع الرجال الذين يستطيعون مراجعة الذات في العمق. يهتمّ بالخطر الكردي في العراق ولا يهتمّ بأن العراق، في ظلّ حكومة محمّد شيّاع السوداني، يسير بخطى ثابتة في اتجاه التحوّل إلى نظام إيراني جديد تحت هيمنة "الحشد الشعبي". هناك "الحرس الثوري" في ايران، وهناك "الحشد الشعبي" في العراق. يسيطر "الحرس الثوري" على ايران ويبدو أنّ "الحشد الشعبي" في طريقة إلى السيطرة على العراق. تبلغ موازنة "الحشد الشعبي" في العراق 2.8 مليار دولار. تمثل هذه الموازنة نسبة 38 في المئة من الموازنة المخصصة للجيش العراقي. أكثر من ذلك، ارتفع أعضاء "الحشد الشعبي" من 122 الفا في 2021 إلى 238 الفا في الوقت الراهن.
ايران نفسها في وضع لا تحسد عليه، نظرا إلى أنّها تعيش في ظلّ أزمات داخلية متفاقمة. كانت الثورة على الحجاب، وهي ثورة ما زالت مستمرّة، افضل تعبير عن عجز النظام عن التصالح مع الشعوب الإيرانيّة.
أين تركيا وسط كلّ ما يدور في المنطقة؟ الأكيد أن شخص رجب طيّب إردوغان، الذي ينتمي إلى تنظيم الإخوان المسلمين، لن يستطيع الإقدام على أيّ خطوة في الإتجاه الصحيح. يكمن الإتجاه الصحيح، بكلّ بساطة في التخلي عن أوهام استعادة تركيا امجاد الدولة العثمانيّة. لو كان ذلك ممكنا، لما انهارت تلك الدولة ولما كان الخلاص التركي في اتاتورك الذي يسعى إردوغان إلى القضاء على إرثه... بحسناته وسيئاته!
الطبيعي أن يطوّر إردوغان في إرث اتاتورك وأن يعمل من أجل مصالحات بين الشعوب التركيّة، بدءا بالأكراد بدل اللجوء إلى مزيد من التعنت والتزمت... والتقرب من رجل مريض اسمه فلاديمير بوتين.
فاز إردوغان في الانتخابات التي خاضها ضدّ شخص باهت افتقد القدرة على مواجهته بشكل فعال. سيكون التحدي الأهمّ امامه الحؤول تحوّل تركيا إلى رجل مريض آخر في المنطقة على غرار ايران والعراق وسوريا.