كانت آيرلندا بين البلدان التي حلمتُ شاباً بالهُجرة إليها. بلد هادئ وجميل على حدود أوروبا، وبعيد عن صراعات لبنان وكدمات العرب، إضافة إلى أن لغته الإنجليزية وآدابه عظيمة، وشعبه ترحابي. بلد في قلب العالم وخارجه معاً.
انتهى الحلم سريعاً، لكن آيرلندا ظلت تظهر في حياتي وتغيب. الاهتمام الصحافي بقضاياها ظل حياً، والشغف بآدابها ظل دافئاً مثل مواقد الشتاء. لكن «العلاقة» نفسها تلاشت. بين فترة وأخرى أقرأ صحفها من قبيل الفضول، لا من قبيل العاطفة. والعادة الوحيدة التي واظبت عليها هي قراءة «دبلن ريفيو» الفصلية، وغالباً بسبب ما فيها من دراسات عالمية لا آيرلندية. لا شيء تبقى من آيرلندا على خريطة الذاكرة. مثلها مثل الدول التي لم أحلم بها ولم تخطر لي يوماً.
الآن كلما مر أمامي اسم نهر «الليفي»، أو اسم قضاء «كاونتي» في الغرب الآيرلندي، أتساءل ماذا لو أن حلمي تحقق أواخر الستينات، وتمكنت من الاستقرار في دبلن؟ سوف أكون غريباً وشاعراً بالملل. لا شيء يعني لي أي شيء. وجميع الأسماء غريبة برغم مرور السنين الطويلة. وبقال الحي لا يزال يعاملني كأنني وصلت إلى البلاد أمس. وبدلاً من الاهتمام بأخبار دبلن السياسية سوف أنتظر نشرة الثامنة على تليفزيونات بيروت، لكي أعرف أخبار جبران باسيل وسائر مآثر لبنان.
ما أصعب التخلي عن الجذور، حتى اليابس منها. نسافر ومعنا جذورنا. «الجيل الأول» لا يُقتلع ولا يَندمج ولا يَنسى. لذلك يبقى معلقاً بين الوطن الأصيل والوطن البديل. ولا صعوبة إطلاقاً في أن يكون البديل أفضل من الأصيل. قانون وطمأنينة وحياة وراحة بال. ولكن في النهاية كيف يمكن أن تمضي شيخوختك مع المستر ماكلاري، وتهتم بأخبار لعبة الرغبي، وتسمع مذيعة الطقس تعلن أن المطر سوف يتوقف يومين هذه السنة، أول الصيف وآخر الربيع.
كل إنسان صُنعُ طفولته. سواء كانت قاسية أو سعيدة. إنها سنوات الطبع والتطبع. ومنها يصنع وطن يحملك إلى كل البلدان ويظل وحده بلدك، وإذا كنت سيئ الحظ ومولوداً في الشرق قضاء لبنان، فلن يغير شيء أنك أمضيت نصف قرن في آيرلندا، أو سويسرا، أو نيوزيلندا. سوف تحمل في عنقك حرزاً، أو هوية، أو بطاقة تُعلن أن دمك عربي من فئة عرب، ولو «أمة ضحكت من جهلها الأمم». وسوف تعيش كل عمرك في آيرلندا وأنت تحب أم كلثوم، وفيروز، وسيد درويش، «والديك بينده كوكو كوكو في الفجرية/ طلع الصباح فتاح يا عليم/ آه / والجيب ما فيهش ولا مليم».
اعتذار شديد من كاونتي كورك والعشب الأخضر اللامتناهي، وأجمل ما كتب وليم بتلر ييتس، وعيني موظفة الاستقبال في فندق «ذي غريشام»، وسائر تلاوين الخضرة في الجزيرة. تحيات واعتذاراً، لم أستطع التغلب على الحمض النووي. وآثار الطفولة في الروح.