أَقْدم شاب على سرقة، فجيء به إلى المأمون، فأمر بقطع يده، فتقدم لتُقطع، فأنشد الشاب يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها/ بعفوك أن تلقى نكالاً يشينها
فلا خير في الدنيا ولا راحة بها/ إذا ما شمال فارقتها يمينها
وكانت أُمُّ الشاب واقفة على رأسه، فبكت وقالت: يا أمير المؤمنين إنه ولدي وواحدي، ناشدتكَ الله إلا رحمتني وهدّأت لوعتي وجُدْتَ بالعفو عمّن استحقّ العقوبة. فقال المأمون: هذا حد من حدود الله تعالى. فقالت: يا أمير المؤمنين اجعل عفوك عن هذا الحد ذنباً من الذنوب التي تستغفر منها. فرقّ لها المأمون، وقال لابنها: عاهدني أنك لن تعود للسرقة. فعاهده الشاب وعفا عنه المأمون وأكرمه.
وفي موقف آخر، قال أحدهم، بعض العلماء الأكابر، إن المأمون أشرف يوماً من قصره فرأى رجلاً قائماً وبيده فحمة، وهو يكتب بها على حائط قصره، فقال المأمون لبعض خدمه: اذهب إلى ذلك الرجل، فانظر ما كتب وآتني به. فبادر الخادم وقبض عليه، لأنه كتب هذين البيتين:
يا قصر جمع فيك الشوم واللوم/ ومتى يعشش في أركانك البوم
يوسم يعشش فيك اليوم من فرحي/ أكون أول من ينعاك مرغوم
فلما مَثَل بين يدي أمير المؤمنين وأُعلم بما كتب، قال له المأمون: ويلك، ما حملك على هذا؟ فقال: «يا أمير المؤمنين إنه لا يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحليّ والحلل والطعام والشراب والفرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك مما يَقصُر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي، وإني يا أمير المؤمنين قد مررت عليه الآن، وأنا في غاية الجوع والفاقة، فوقفت مفكراً في أمري وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عالٍ، وأنا جائع ولا فائدة لنا فيه، فلو كان خراباً ومررت به لم أعدم رخامة أو خشبة أو مسماراً أبيعه وأتقوّت بثمنه، أو ما علم أمير المؤمنين رعاه الله قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في دولة امرئ/ نصيب ولا حظ تمنى زوالها
وما ذاك من بُغض له غير أنه/ يزجي سواها فهو يهوى انتقالها
فقال أمير المؤمنين: يا غلام، أعطه ألف درهم، ثم قال:
هي لك في كل سنة ما دام قصرنا عامراً بأهله مسروراً في دولته.
فوقف المأمون متذكراً بيتين من الشعر، فقال وهو يهز رأسه:
إذا كنت في أمر فكن محسناً/ فعمّا قليل أنت ماضٍ وتاركه
فكم دَحَت الأيام أرباب دولة/ وقد ملكوا أضعاف ما أنت مالكه