كأنما لم يشأ السنيور إدسون أرانتس دي ناسيمنتو، أو «بيليه»، أن يعكّر أجمل مهرجان كروي في التاريخ، فصانعَ في موعد غيابه كما أن يصانع في حضوره العالمي، خطّافاً، هدافاً، متوّجاً بلده «ملك ملوك الكرة».
حيثما حضر طغى. عندما فاز ثلاث مرات بكأس العالم، أصبح لون الكرة أسود. وكذلك لون الفرح. والآن لون الحداد الذي ترتديه البرازيل ثلاثة أيام، وفاءً للرجل الوحيد الذي وضعها على لائحة التاريخ، من دون صراع أو انقلاب أو دماء.
سر بيليه لم يكن قدمه فقط. كان دماغه أيضاً، في كل الملاعب. ووضع أسطورة الرياضة في صناعة الأسطورة الإنسانية، باسماً، متواضعاً، كريماً، سخياً، ماهراً في رسم صورة الإنسان.
سرّه أنه كان لا يكتفي بما يحقق من ذهول ودهشة في الملاعب، بل ما يسخّره أيضاً في سبيل قضاياه. هكذا فعل محمد علي كلاي عندما جعل من قوة قبضته حارساً لأعتاب السود من مواطنيه. هكذا قدم محمد صلاح نفسه على الملعب العالمي، ليس هدافاً ساحراً، بل ساحر يرسل أول جني الفوز إلى فقراء بلدته.
هذا الجانب من الشخصية الرياضية لم يتقنه رفاق بيليه كما فعل، فيما ظل هو ينمّيه حتى اليوم الأخير. وفي مرحلة أصبح وزير شؤون الرياضة، وكاد يوماً يخوض معركة الرئاسة، ولو فعل، لاكتسح. هكذا كان محمد علي كلاي في أميركا، تهفو إليه الجموع كما كانت تهفو وكأنه مارتن لوثر كينغ آخر.
يبتعد معظم نجوم الرياضة عن العمل الاجتماعي أو السياسي، ربما بسبب اختلاف ظروفهم وبلدانهم. ليس من قضية لون أو عِرق لدى كرويف أو بيكنباور أو الأساطير الأخرى. ولن يكون ميسي بيليه آخر، مع أن كرة القدم تكاد تسبق السياسة في أهميتها الجماهيرية، في البلدان الغنية والفقيرة على السواء. وتتصاعد هذه الظاهرة بصورة خاصة في العالم العربي على سبيل المثال. فالشغف الكروي لم يعد حكراً على مصر وحماسيات الأهلي والزمالك، بل انتقل أيضاً إلى السعودية وبقية دول الخليج. ولا شك أن دورة الكأس في قطر تركت أثراً بالغاً في نفوس شباب أهل المنطقة، فيما جمع أداء المنتخب المغربي اهتمام العرب أجمعين.
كانت الوجوه السياسية والأدبية والفنية هي التي تكبر بها الأمم. الآن هي الأقدام العجيبة. ومع تقدم هذه الرياضة التي حوَّلها بيليه إلى فن، تقدم معها كل ما يتعلق بها. وأكثر ما لفتني في دورة قطر تقدم المذيعين العرب الذين يغطون المباريات. مهارة مهنية رائعة، وسرعة تسابق سرعة الكرة نفسها، وعرض دقيق لا يقوم فقط على «هايل» و«يا سلام» و«أحمد شاطها بدماغو».